المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حصائد الشوك


الصفحات : [1] 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18

مازن حجازي
25-02-2007, 01:09 PM
لم يكن غريبا عليه أن يرى هذا المشهد البائس الذي قد ألفه وتعود عليه فقد كان منذ نعومة أظفاره فتى
حزينا منطويا على نفسه لا يعرف من العالم إلا أسرته أمه وأباه وأخواته التسعة علمته الحياة شيئا واحدا اليأس وعدم التفاؤل.
فتى في الثلاثين من عمره ممتلئ الجسم ابيض الوجه ذو قسمات جميلة وملامح تنم عن أصالة وتربية
صالحة وعلى الرغم من ذلك تشعر وأنت تنظر إليه بعبسة في وجهه تنم عن حزن دفين ـ اسمه بشر ولا
يحمل من اسمه أي معاني البشر فقد كان دائم العبوس والتجهم حتى أنه من كثرة حزنه الدفين انطبع
ذلك على هيئته وقلبه فلم يعد يدرك حقيقة الحياة إلا في البعد عن مصاحبة الناس وعدم التعامل معهم ,
نشأ فقيرا في أسرة أثقلتها الحياة بكل ما تحمله الكلمة من ثقل , الأب أنهكه البحث عن لقمة العيش
حتى انه عمل في أكثر من وظيفة في البداية يعمل عامل في شركة الغزل وبعد أن يخرج من عمله يعمل
شيال في مستودع الحديد والاسمنت وأدوات البناء ثم يعود ليلا ليعمل في تشوين أدوات البناء أو عامل
بناء هكذا قد أثقلته الحياة فأصبح لا يرى أولاده إلا وهم نائمون أو مصادفة وهو خارج لعمله في
الصباح مسرعا لا يلوى على شئ حتى انه لا يدرى أيهم يتعلم وأيهم لا يتعلم حتى انه قد يحتار في
أسماء أولاده فينادى على احدهم باسم الأخر فيا لرحمة الله.





اشعر وأنا اسرد قصة حياة هذا الشاب بشعورين احدهما الخوف عليه والأخر الإشفاق على والده ولا
أدرى من أين جاءتني تلك المشاعر أمن قسمات وجهه العابث أم من مشاعره الدفينة أم من حياته
البائسة أم إشفاقا على والده المثقل بأعباء الحياة ولكن على الرغم من ذلك سأحكيها كما هي بلا مجاملة
أو تزييف من وقائعها.

تبدأ أحداث قصتنا في قرية صغيرة من قرى محافظة البحيرة قرية تحمل من ملامح الريف المصري
الهدوء والسكينة والهواء النظيف والطيبة بعيدا عن المدينة بتلوثها وضجيجها وكان أهم ما يميزها تلك
الترعة التي خطت في وسط القرية فقسمتها إلى قسمين متساويين القسم الشرقي فتسكن فيه عائلة من
اعرق العائلات في الريف عائلة أبو جبل عمدة القرية منازل كبيرة تشبه قصور الأثرياء يبدو من
مظهرها الخارجي وكأنك تعيش في المدينة, أما القسم الغربي فيسكن فيه معظم الفلاحين والفقراء
والدهماء منازل عن يمينك وشمالك وكأنها أكواخ بنيت من الطوب اللبن وسقفت بالبوص والقش وكان
أشهر من يسكن هذا القسم عائلة حجاج أسرة مكونه من أحد عشر فردا الأب والأم وأبنائهم التسعة.

أوسطهم فتى يملك من مقومات الرجولة ما يؤهله أن يكون احد البارزين في هذا المجتمع الريفي
الصغير فقد كان حاد الذكاء مشرق الوجه مهيب الطلعة نافذ البصيرة محبوب من أهل قريته جميعا ولكن
ما أصابه في السنوات الأخيرة من حياته جعله يعزف عن الحياة عظيمها وحقيرها.







( 2 )
هاهو يخرج من بيته ليلا قبل صلاة الفجر بعدما عجزت عيناه عن النوم على الرغم من انه لايستطيع ان
يرفع حاجبيه فقد اراد النوم ولكن مشكلاته الكثيرة واحلامه الضائعة ومواهبه المهدرة هى التى لم يكن يدرك في يوم من الايام انها ستضيع وتصبح بلا قيمه في هذا المجتمع الذي يتحول فيه كل شئ الى الاسواء.
خرج في هذا الوقت المظلم يدفعه نحو الحياة شئ واحد فاتن تلك الفتاة التى يشعر نحوها بأحسيس لم
يدرك حقيقة مشاعره نحوها الا في تلك الأوقات الصعبة الشديدة فتاة في العشرين من عمرها لم تلوثها
مباهج الدنيا ومفاتنها جميلة حقا عينين خضراوين وبشرة ناعمة وملامح دقيقة جميلة اذا نظرت اليها
تشعر وكانك امام حورية من حوريات الجنة ترى دماءها تسير في عروقها امام عينيك فلا تشعر الا
ببراعة صنع الله فلا تقول الا سبحان الله سبحان من ابدع هذا الجمال وسواه اسمها فاتن وهى في
الحقيقة فاتن.
لم يكن يعرف حقيقة مشاعره إلا عندما قرر أن يترك الحياة بكل ما فيها ويعتزل الناس كلهم بلا رجعة,
خرج في هذا الوقت من الليل يسير على جانب الجسر ينظر الى مياه الترعة مرة وإلى النجوم التى فى
السماء فلا يشعر إلا بألم دفين في جسمه يكاد يعتصر فؤاده فلا يدرى أكان هذا الالم بسبب شقاءه في
الحياة أم بسبب بعده عن محبوبته الفتاة.
أخذ يسير في هذا الطريق لايعرف الى أين يذهب ولا الى أين ينتهى, علمته الحياة دروسا قاسية في
الصبر على الايذاء ورفض الظلم ومواجهة الباطل ها هو بشر يسير في هذا الطريق وكأنه لأول مرة يمر
بتلك الأماكن يتعرف على تلك الاحداث وكأنه لأول مرة يمر بها ويتفاعل معها.
وبينما هو يسير على حالته هذه إذ يرى في هذا الظلام شبح مقبل عليه من بعيد ففزع في بداية الامر
كما يفزع الطفل الصغير عندما يرى مثل هذا المشهد فلما دنا منه وتبينه وجده شخصا عزيزا على قلبه


كم كان يتمنى أن يلقاه فأخذ يفرك عينيه بكلتا يديه فلما اقترب منه فإذا به يرى ؟ الشيخ محمود الطيب
رجل الدين والصلاح يتكلم بصوت ملؤه الإيمان لايعرف إلى المعصية طريقا ولا يشعر إلا بجمال الطاعة
كم كان يجلس مع بشر يحفظه آيات القرآن وكم كان يعلمه الوضوء والصلاة والصيام ولكن ما الذى
أخرج هذا الشيخ في هذا الوقت من الليل إلا لصلاة الفجر، بشر ! قالها الشيخ محمود الطيب مدهوشا
من رؤية بشر في هذا الوقت فرد عليه بشر: الشيخ محمود يا محاسن الصدف فرد عليه الشيخ: انت
أحسن أكرمك الله يا بنى وسدد على الخير خطاك وجعلك الله سعيدا في حياتك كما جعلك سعيدا في اسمك
فرد عليه قائلا: من أين تاتى السعادة وانا لا أعرف شئ يدفعنى الى الحياة فاندهش الشيخ محمود من
تلك النبرة البائسة التى بدت في صوت بشر فقال له: يابنى إن السعادة الحقيقية لا ينالها العبد المؤمن
إلا في الجنة ولا يشعر بالراحة الحقيقية الا عندما يرى مكانه في الجنة وان مما يتعس الانسان في
حياته ويشقيه أن يسير وراء اماله واحلامه محاولا الوصول اليها في الدنيا فيعجز عن ذلك فينطفئ
النور في قلبه فلا يرى منها إلا الخسيس من المشاعر والحقير من ملزات الحياة فأطرق بشر برهة
وكأنما وقعت تلك الكلمات على سمعه وقع الصاعقة فقال له يا شيخ كيف يرتاح الانسان إن كان جده
وتعبه في الحياة من أجل لقمة عيش لايهنأ بها وفتاة لا يتزوجها وبيتا لا يشعر فيه إلا بالألم فلم يقطع
حوراهما إلا صوت المؤذن ينادى حى على الصلاة حى على الفلاح.
فأطرق بشر في صمت شديد يستمع إلى نداء الله فزاده المشهد رهبة فارتجف جسده ولم يقطع ما أحل به إلا صوت الشيخ محمود الطيب يقول له في خشوع وإجلال تعالى يا بنى لكى نؤدى فرض الله لعله يخفف عنك بعض ما أثقلك فاستجاب الفتى الحزين وذهب مع الشيخ لكى يؤدى صلاة الفجر وبعدما خرج من الصلاة فرفع يديه للسماء يدعو الله أن يرفع عنه ما أحل به من ألم وأن يجمع بينه وبين محبوبته على الخير إن شاء الله.



( 3 )
أخذ بشر يدب بقدميه المثقلتين على الأرض متجها إلى بيته لا يقلقه إلا صوت الذئب ولا يفزعه إلا
مواصلة حياته أخذ تتقاذفه أفكار عدة لا يعرف أيها يتبع وبينما هو على هذه الحال إذ نظر من على
بعد فرأى توأم روحه تمر من جانبه فقد كانت فاتن خارجة من منزلها لكي تحضر الطعام من السوق
على عادتها كما تفعل في هذا اليوم من الشهر, بدت وكأنها غزال يمشى على الأرض بخفتها وجمال
مشيتها وتأنقها في اختيار ملابسها وحسن اختيارها للألوان ثيابها فقد كانت ترتدي ثوبا حريريا ازرق
وتلف على رأسها ملاءة خضراء وتعصب رأسها بمنديل اصفر يبرق مع ضوء الشمس الساطع في
الصباح فجعلها تبدو كالشمس في جمالها ودفئها وأشعتها الذهبية, ما أجمل هذا المشهد الذي كاد أن
يخلع قلب بشر من مكانه ليطير ويحط بالقرب من قلب فاتن, ها هما يلتقيان يقترب كل متهما من الأخر
فلا يكاد يرفع عينيه فقد غاب في نظرتهما المحبوبة في عالم من الخيال لا يشعرون فيه إلا بدفء الحب
وحنين اللقاء, صباح الخير قالها بشر وهو لا يدرى معناها وأنت من أهله يا سي بشر قالتها فاتن في رقة وحنان جعلت بشر يبتسم ابتسامه جميلة وكأنه قد بعثت فيه الحياة من الموت فعاد سعيدا مستبشر وكأنه لم يحزن في حياته قط ، قال لها : الجميل رايح فين، فردت عليه باسمة وانت يعني بتسأل عليه يا سي بشر !! دانا بقالي أكتر من أسبوع مشفتكش !! والله ما أنا عارف ايه اللي حصلي ، أنا لم أعد أذكر شيء تجهم بشر عندما دار برأسه إلى الماضي الأليم ، حاول بشر أن يغير الموضوع فلم يستطع فقد دفعته الذكريات دفعا وأثقلته الكلمات فلم يدر بنفسه إلا وهو خارج لا يلوي على شيء سوى الهروب وعدم العودة ، بشر بشر ! قالتها فاتن وهي تنوح وكأنما فقدت عزيزا لديها ، لم يستجب لندائها ولم ينظر إليها فقد كان غارقا فى شجونه وذكرياته التى حجبت عن عينيه الرؤية وأفقدته حاسة السمع .
انطلق بشر إلى موقف السيارات حتى يرحل عن قريته وعن العالم أجمع فلم يستطع ، فقرر أن يلتحق بأقرب قطار مسافر إلى القاهرة وفعلا سأل عن موعد القطار فأخبره أحدهم أن أقرب موعد سيكون بعد
ساعتين فذهب إلى مكان الانتظار لكي يجلس على تلك الأريكة عله يدرك ذلك القطار .

وبينما هو فى طريقه إذ سمع نداء الله يؤذن لصلاة الظهر فلم يدر بنفسه إلا وهو متجه إلى المسجد ، دخل وتوضأ وصلى الصلاة فشعر وكأن جبلا قد أزيح من على قلبه فخرج نقيا طاهرا وكأنما ولد من جديد ، جلس على قهوة داخل المحطة وعرض عليه النادل ماذا يطلب فقال له أطلب ينسونا عله يخفف من غضبي وبينما هو جالس يحتسي الينسون إذ أخذ يفكر فى طبيعة الحياة ونتائج هروبه وأنه سيكون سببا فى الكثير من المشكلات فقرر العودة والمواجهة والبدء من جديد لعل الله يساعده أن يستل هذا الغضب من قلبه وعقله وذكرياته .