المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موقف الخليفة عمر بن عبدالعزيز من الشعراء


الصفحات : [1] 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29

ضعيان البدرانى
30-06-2008, 01:41 AM
لما استخلف عمر بن عبد العزيز " أي أصبح خليفة", وفد الشعراء إِليه وأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول, حتى قدم عدي بن أرطأة " ويقال غيره ", وعليه عمامة قد أرخى طرفيها, وكانت له منه مكانة, فقال جرير :

يا أيها الرجل المرخي عمامته = هذا زمانك إِني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إِن كنت لاقيه = أني لدى الباب كالمصفود في قرنِ
وحش المكانة من أهلي ومن ولدي = نائي المحلة عن داري وعن وطني
قال: نعم أبا حرْزة, ونعمى عليك. " أبا حرزة كنية جرير كما هو معروف "
فلما دخل على عمر قال: يا أمير المؤمنين, إِن الشعراء ببابك, وأقوالهم باقية, وسنانهم مسنونة.
قال: يا عدي, مالي وللشعراء!
قال: يا أمير المؤمنين, إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مُدح وأعطى, وفيه أسوة لكل مسلم.
قال: ومن مدحه؟
قال: عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه!
قال: وتروي قوله؟
فقال عدي: نعم:

رأيتك يا خير البرية كلها = نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
ونوَّرت بالبرهان أمراً مدمساً = وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما
فمن مبلغٌ عني النبي محمداً = كل أمرئ يجزى بما قد تكلما
تعالى عُلوّاً فوق عرش إِلهُنا = وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال: صدقت, فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة. قال: لا قرب الله قرابته, ولا حيا وجهه! أليس هو القائل:

ألا ليت أني يوم حانت منيتي = شممت الذي ما بين عينيك والفمِ
وليت طهوري كان ريقَك كلَّه = وليت حنوطي من مُشاشك والدمِ
وليت سلمى في القبور ضجيعتي = هنالك أو في جنة أو جهنمِ
فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا, ويعمل عملاً صالحاً. والله لا دخل عليَّ أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟
قال: جميل بن معمر العذري.
قال: هو الذي يقول:

ألا ليتنا نحيا جميعاً وإِن نمُت = يوافي لدى الموت ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب = إِذا قيل قد سُوِّي عليها صفيحها
أظلُّ نهاري لا أراها ويلتقي = مع الليل روحي في المنام وروحها
اعزب به فوالله لا دخل علي أبداً. فمن غير من ذكرت؟
قال: كُثّير عزة.
قال: أليس هو القائل:

رهبانُ مدين والذين عهدتهم = يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها = خرّوا لعزة راكعين سجودا
اعزب به, أبعده الله, فوالله لا يدخل علي أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟
قال: الأحوص الأنصاري.
قال: أبعده الله ومحقه, أليس هو القائل- وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية هرب بها منه:

الله بيني وبين سيدها = يَفِرُّ عني بها وأتَّبع
اعزب به. فمن بالباب غير من ذكرت؟
قال: همام بن غالب الفرزدق.
قال: أليس هو القائل:

هما دَلَّتاني من ثمانين قامة = كما انقضَّ بازٍ أقتمُ الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا = أحيُّ يرجَّى أم قتيل نحاذره
وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت = مغلقة دوني عليها دساكره
فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بها = ووليت في أعقاب ليلٍ أبادره
اعزب به, فوالله لا يدخل علي أبداً. فمن بالباب غير من ذكرت؟
قال: الأخطل التغلبي.
قال: أليس هو القائل:

فلست بصائم رمضانَ عُمري = ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكوراً = إِلى بطحاء مكة للنجاحِ
ولست بقائم كالعير يدعو = قبيل الصبح حيَّ على الفلاحِ
ولكني سأشربها شمولاً = وأسجد عند منبلج الصباحِ
اعزب به, فوالله لا وطأ لي بساطاً أبداً وهو كافر, فمن بالباب غير من ذكرت؟
قال: جرير بن عطية الخطفي.
قال: أليس هو القائل:

لولا مراقبة العيون أَرَيْنَنَا = مُقَلَ المها وسوالف الآرام
هل ينهينَّك أن قتلن مرقشاً = أو مافعلن بعروة بن حزام
ذُمَّ المنازل بعد منزلة اللِّوي = والعيش بعد أولئك الأقوام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا = حين الزيارة فارجعي بسلام
فإِن كان فلابد فهذا. فأذن له.
فخرج عدي إِليه, فقال: أبا حرزة, ادخل.
فدخل جرير وهو يقول:

إِن الذي بعث النبي محمداً = جعل الخلافة في إِمام عادلِ
وسع الخلائق عدله ووفاؤه = حتى ارعووا وأقام ميل المائلِ
إِني لأرجو منك خيراً عاجلاً = والنفس مولعة بحب العاجلِ
فلما مثل بين يديه قال عمر: اتق الله يا جرير ولا تقل إِلا حقاً. " تعليق: يقصد عمر بن عبد العزيز أنه في بداية خلافته, ولم ترى الناس من خصاله شيئا مما ذكر جرير, وعمر بن عبد العزيز معروف عنه أنه لا يحب دخول الشعراء عليه, لأنه لا يحب الغزل الذي كان كثير منه يسوء سماعه, أو المبالغة في المديح. وجرير بالذات لم يكن ممن يُكره غزله, وقد يكون هذا سببا بالسماح له بالدخول "
فأنشأ جرير:

كم باليمامة من شعثاء أرملة = ومن يتيم ضعيف الصوت والبصرِ
ممن يَعُدُّك تكفي فقد والده = كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطرِ
يدعوك دعوة ملهوف كأن به = خبلاً من الجن أو مساً من النَّشرِ
خليفة الله ماذا تأمرنّ بنا = لسنا إِليكم ولا في دار منتظرِ
مازلت بعدك في هم يؤرقني = قد طال في الحي إِصعادي ومنحدري
إِنا لنرجو إِذا ما الغيث أخلفنا = من الخليفة ما نرجو من المطرِ
نال الخلافة إِذ كانت له قدراً = كما أتى ربه موسى على قدرِ
هذي الأرامل قد قضيت حاجاتها = فمن لحاجة هذا الأرمل الذكرِ
الخير مادمت حياً لا يفارقنا = بوركت يا عمر الخيرات من عمرِ
فقال: ياجرير, ما أرى لك فيما ههنا حقاً!
فقال: يا أمير المؤمنين, إِني ابن سبيل ومنقطع!
فقال عمر: ويحك يا جرير! قد وُلِّينا هذا الأمر, ولا نملك إِلا ثلاثمائة درهم, فمائة أخذها عبد الله, ومائة أخذتها أم عبد الله, يا غلام أعطه المائة الباقية.
فأخذها جرير, وقال: والله يا أمير المؤمنين, لهي أحبُّ مال إِلي كسبته. ثم خرج, فقال له الشعراء: ما وراءك؟
قال: ما يسوؤكم! خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء, ويمنح الشعراء وإِني عنه راض, ثم أنشأ يقول:

رأيت رُقى الشيطان لا تستفزُّه = وقد كان شيطاني من الجن راقيا


قطوف الأدب في أخبار ومآثر العرب.