يوم عاشورا وقصة موسى مع فرعون
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[ . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) )النساء:1(. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) )الأحزاب:70-71( .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيها المسلمون :
في اليومِ العاشرِ من شهر الله المحرم، أعز اللهُ فيه الإسلام ، وأذلَ الكفر وأهله, ذلك اليوم الذي يعتبرُ غرةً في جبين الزمان، إنه اليومُ الذي نجى الله فيه نبيه موسى عليه السلام ، وأهلكَ عدوهُ فرعونَ الذي طغى وتجبر, فيا ترى ما قصةُ ذلك اليوم ؟ وماذا جرى لموسى وفرعون ؟ وكيف كانت نهايةُ فرعونَ اللئيم ؟
يقول الله عز وجل : (( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )) (القصص:4) .
لقد علا في الأرض وطغى وتجبر, وبلغَ من علوه وطغيانِه إلى حد الإسفافِ بعقولِ دهماءِ الناس. فإذا به يخاطبُهم قائلاً : (( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي )) (القصص: من الآية38) .
وأذاقَ أهلَها ألوناً من العذابِ وصنوفاً من الاضطهاد، فجعلهم شيعاً وأحزابا وطوائف، كلُّّ طائفةٍ مسخرةٌ لقضاءِ حاجةٍ من حاجته، وشأناً من شؤونه,وبلغَ به الضيم، ووصلَ به الظلمُ إلى أن يقتلَ الأطفالَ الأبرياء، ويستحي النساء, يفعلُ ذلك كلَه خوفاً من الغلامِ المنتظر, الذي سيكونُ على يديه تقويضُ ملكه، وإزالةُ عرشه، وإسقاطُ دولته.
وبينما هو كذلك يقتل أبناءَهم, ويستحي نساءَهم، إذا به وبجنده يشعرونَ بتناقصِ تلك الطائفةِ التي سُخرتْ لقضاءِ حوائِجِهِم، وخدمةِ مصالحهم فاتخذوا قراراً يوافقُ مصالحهَم الشخصية, وأطماعهَم التعسفية، بأن يقتلَ الصغارُ عاماً دون عام ، من أجلِ الإبقاءِ عليهم، وعدم قطعِ دابر هم. فيا لله العجب ! هكذا صنع الفراعنةُ القرار, ظناً منهم أنهم يحسنون صنعا، وأنهم يختارون ما يشاءون ، ويفعلون لغيرهم ما يريدون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون, لقد بلغَ بهم الغرورُ مبلغه، ووصلَ الكبرياءُ ذروته، متناسينَ تماماً إرادةَ الله جل جلاله, ومشيئتُه النافذة، التي أفصح عنها في كتابه فقال : (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ )) (القصص:5-6) .
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، فهؤلاء المستضعفونَ الذين يتصرفُ فيهم الطاغيةُ كما يريد، ويسومُهم سوءَ العذاب والنكال، وهو مع ذلك يحذرُهم, ويخافُهم على نفسِه وملكه، هؤلاء المستضعفون يريدُ الله تعالى أن يمن عليهِم بهباتِه من غير تحديد, فهل يمكن لطاغوتٍ أن يقفَ أمامَ هذه الإرادة، وتلك المشيئة ؟, إن الله أراد أن يجعلَ هؤلاء أئمةً بعد أن كانوا عبيدا ويجعلَهم سادة بعد أن كانوا أرقاءَ، فهو سبحانه يريدُ أن يقلبَ الضعيف قوياً, والمقهور قاهراً، والذليل عزيزا, ويجعلهم الوراثين لهذه الأرضِ المباركة، وأن يحققَ ما يحذرهُ فرعونُ وهامانُ وجنودهُما، وما يتخذون الحيطةَ دونه، وهم لا يشعرون, ثم يا ترى ما تلك المفاجأةَ العظيمة؟ لقد ولد موسى عليه السلام في ظلِ تلكَ الأوضاعِ القاسية، ولد والخطرُ مُحدِقُ به، والموتُ يتربص به، والشفرةُ مشرعةٌ على عنقِه، تهم أن تحتز رأسه, وهاهي أمهُ ذي حائرةٌ به، خائفةٌ عليه، تخشى أن يصلَ بنأه إلى سفاكي الدماء, وترتجف أن تتناولَ عنقَه السكين، هاهي ذي بطفلِها الصغيرِ في قَلْب المهلكة، عاجزةٌ عن حمايتِه, عاجزةٌ عن إخفائِه، هاهي ذي وحدَها ضعيفةٌ عاجزةٌ مسكينة, هنا تتدخلُ رحمةُ الله : (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )) (القصص:7) .
يا أمَّ موسى أرضعيه,فإذا خِفْتِ عليه وهو في حُضُنِك, وهو في رَعايتُك، إذا خفتِ عليه : ] فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [ , فيا لله كيف يمكنُ لقلبٍ يكادُ يتفطرُ خوفاً وإشفاقاً على فلذةِ كبدِها, وهو بين أحضانهِا, وفي فمهِ ثديُها, أن تلقيه في اليم ألقيه في اليم : (( وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي )) إن عَينَ اللهِ تعالى ترعاه, إنه في رعايةٍ لا أمن إلا في جوارها، إنها رعايةُ الله التي لا خوفَ معها، رعايةُ الله التي تجعل النار برداً وسلاماً، وتجعل البحر ملجأً ومناماً, إنها الرعايةُ التي لا يجرؤ فرعونُ الطاغيةُ الجبار ولا جبابرةُ الأرضِ جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب : (( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ )) , إذن فلا خوفَ على حياته، ولا حزنَ على بُعده، وماذا بعد؟ : (( وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )) , وتلك بشارة عظمى, ونعمة كبرى.
ولكن يا ترى ما الذي جرى بعد ذلك ؟ ما الذي حدث له ؟ : (( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ)) (القصص: من الآية8) ,
أهذا هو الأمن ؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة ؟ وهل كانتْ المسكينةُ تخشى عليه إلا من آلِ فرعون ؟ وهل كانتْ ترتجف إلا أن يُنكشفَ أمرُه لآلِ فرعون؟ وهل كانتْ تخافُ إلا أن يقع في أيدي آلِ فرعون ؟
نعم , ولكنها قدرةُ اللهِ تعالى, تتحدى فرعونَ وهامانَ وجنودَهما, الذين وصل بهم الظلم منتهاه, أن يقتلوا الأبناء عاماً دون عام، خوفاً على ملكهِم وعرشهِم وذواتهم. ويبثون العيون على قوم موسى, كي لا يُفلت منهم طفلٌ ذكر, فإذا بالطفل ذاتهُ, الطفلُ الذي يكون على يديهِ زوالُ ملكِ فرعون ونهاية سلطانِه, يأتى إليهم بلا بحثٍ ولا عناء مجرداً من كل قوة، خالياً من كل حيلةٍ، عاجزاً عن أن يدافعَ عن نفسه, أو حتى يستنجد بغيره .
(( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً )) (القصص: من الآية8) . ليكون لهم عدواً يتحداهم، وحزناً يُدخل الهم على قلوبهم, ولكن كيف ذلك؟وهو مجردٌ من كل قوة، مجردٌ من كلِ حيلة, استمع إلى قولِ الله جل جلاله : (( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) (القصص:9) .
لقد حمى الله عز وجل موسى من كيدِ فرعون, بأن سخرَ اللهُ لموسى قلبَ زوجةِ فرعونَ التي أحبتهُ، وعطَفتْ عليه، لم تحميهِ لا بالسلاحِ, ولا بالجاه ولا بالمالِ، حمتُه بالحبِ الحاني في قلبِ امرأةٍ، وتحدتْ به قَسوةَ فرعونَ وغلظتَهُ, وحرصَهُ وحذرَه, وهانَ فرعونُ على الله أن يحميَ منه الطفلَ الضعيف, بغير هذا الستار الرقيق .
هذا شأن موسى, فما بالُ أمهِ الوالهة، وقلبهُا الملهوف,: (( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً )) (القصص: من الآية10) لا عقلَ فيه, ولا وعي ولا قدرةَ على نظرٍ, أو تصريف , : ((إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِه )) (القصص: من الآية10) فتذيعَ أمرها في الناس : (( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )) (القصص: من الآية10) . ولم تسكتْ أمَّ موسى عن البحث, والمحاولة, (( وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)) (القصص: من الآية11) اتبعي أثره، واعرفي خبره : (( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ )) (القصص:11-12) .
انظر إلى قدرةِ اللِه جل جلاله التي ترعى أمر موسى وتدبرُ شأنهُ، وتكيدُ لفرعونَ وجندِه، فتجعلُهم يلتقطونه ويحبونه، ويبحثونَ له عن ظئرٍ تُرضعُه, وتُحرمُ عليه المراضع، لتدعَهم يحتارون به, وهو يرفضُ الثدي كلما عُرض على مُرضعٍ، فتقول لهم : (( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ )) فيتلقفونَ كلماتهَا، وهم يستبشرُون، يودُّون لو تَصدق فينجو الطفلُ العزيزُ المحبوب! وهاهو الطفلُ الغائبُ يعودُ إلى أمه الملهوفة، معافىً في بدنه، مرموقاً في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأتُهُ، وتضطربُ المخاوفُ من حولـه، وهو آمنُ قرير، : (( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )) (القصص:13) إذن فليتذكرْ المتعجلون لنصر الله وتحقيقي موعده, أنَّ وعد الله لا يتخلف أبدا طال الزمان أم قصر, ولا يتسع المقامُ لذكرِ كلِ الأحداثِ والتفاصيل، وأخذ الدروس والعبر، وما أكثرَها في قصةِ موسى وفرعون، ويكفينا أن نعرفَ هنا كيف فر موسى إلى أرض مدين، خوفاً من بطش فرعون الذي أرسل زبانيتَه وجلاد يه, يبحثون عنه في كلِ مكان, ويكفينا أن نعرفَ ,كيف عاد موسى إلى أرضِ مصر، بعد عشرِ سنين رسولاً مبلغاً، ونبياً مكلما : (( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ )) (القصص:36) فهي المماراةُ في الحقِ الواضحِ، الذي لا يمكنُ دفعُهُ، المماراةُ المتكررة، حيثما واجَه الحقُ الباطلُ، فأعيا الباطلَ الجواب. إنهم يدعونَ أنه سحرٌ، ولا يجدون لهم حجةٌ ،إلا أنه جديدٌ عليهم, لم يسمعوا به في آبائِهم الأولين، فهم لا يناقشون بحجة، ولا يدلون ببرهان إنما يُلقون بهذا القولِ الغامض الذي لا يُحقُ حقا، ولا يُبطلُ باطلا .
وأما موسى عليه السلام ، فيحيلُ الأمرَ بينه وبينهم إلى الله، فما أدلوا بحجةٍ ليناقِشَها، ولا طلبوا دليلا فيعطيهم، إنما يمارون كما يماري أصحابُ الباطل, في كل زمان ومكان، فالاختصارُ أولى، والإعراضُ أكرم، وتفويضُ الأمرِ إلى الله أسلم .
(( وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )) (القصص:37) .
وهو ردٌ مؤدبٌ مهذبٌ، يُلَمِّح فيه ولا يُصَرِّح، وفي الوقت ذاته، ناصعٌ واضحٌ، ملئٌ بالثقةِ والطمأنينةِ، إلى عاقبةِ المواجهةِ بين الحق والباطل، فربهُ أعلمُ بصدقهِ وهداه، وعاقبةُ الدارِ مكفولةٌ لمن جاء بالهدى, والظالمون وإن بدت ظواهر الأمور أحياناً في غير هذا الاتجاه، سنة الله يواجه بها موسى قومه، ويواجه بها كل داعيةٍ قومه كذلك, وكان ردُ فرعون على هذا الأدب الجم، والخلقِ الرفيعِ ادعاءً وتطاولًا، وتهكماً وسخريةً .
(( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ )) (القصص:38) .
يا أيها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري, كلمةٌ فاجرةٌ كافرةٌ, يتلقاها الملأُ بالإقرارِ والتسليمِ. ويعتمد فيها فرعون أولاً : على الأساطيرِ التي كانت سائدةً في مصر، من نسبة الملوك للآلهة، ثم هو يعتمد فيها ثانياً : على القهرِ والبطشِ الذي لا يدعُ للعقلِ أن يفكرَ، ولا للسانِ أن يعبرَ: (( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ )) (العنكبوت:39) فلما وصل كبرهم غايته، وغرورهم نهايته، آن الآوانُ لوضعِ حدٍ لذلك الطيش والعدوان، والبطشُ والطغيانُ : (( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ )) (القصص: من الآية40) .
هكذا ببساطة، يُقذف ذلك المتأله الدجال في اليم كما تقذف الحصاة الصغيرة فيه، فتخلفُ فقاعاتٍ هشة لا تلبثُ أن تزول، ويا للعجب! إنه اليمُّ الذي أُلقى فيه موسى طفلا رضعياً، فكان آمناً وملجأً ومناماً, وهو ذاته يُنبذ فيه فرعونَ وجنوده، فإذا هو مخافةً ومهلكةً, فالأمنُ إنما يكون في جنابِ الله ، والمخافةُ إنما تكون في البعدِ عن ذلك الجناب : (( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ )) (القصص: من الآية40) فهي عاقبةٌ مشهودةٌ ، معروضةً للعالمين، فيها عبرة للمعتبرين، ونذير للمكذبين، وتتجلى فيها قدرةُ الله، تعصفِ بالطغاةِ والمتجبرين في مثل لمح البصر : (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )) (قّ:37) .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
أيها المسلمون فهكذا طويتُ صفحة ذلك الطاغيةِ العنيد، ونسى ذكره وأصبح أثراً بعد عين، وعبرةً تتناقلها الأجيالُ، فكم كان واهماً، حين ظن أن بضعةً ألوفٍ من جنوده الجبناء، قادرون على حمايته ونصرته، إذا ما حلت نقمة السماء, وهذه العاقبةُ الوخيمة، رسالةٌ واضحةٌ المعالم، بينة الألفاظ, لكل الفراعنةِ على مر الأجيالِ والأزمانِ، بأنهم ضعفاء محاويج، مهما بدا للعامةِ عظيم قدرتهم، وقوي بطشهم، ومهما طبعوا في أذهانِ الدهماء أنهم أولو قوةٍ, وأولو بأسٍ شديد .
وكان على الفراعنة أن يأخذوا الدروسَ والعبَر من أسلافهم، وألا يقعوا في الخطأ نفسه معتمدين على قدراتٍ ماديةٍ هزيلة، لا تساوي شيئاً أمام قدرة الواحدِ القهار، الملكِ العزيزِ الجبار.
وكان على الفراعنةَ أن يدركوا أنهم يخوضون حربا خاسرة, لا محالةَ عندما يجابهون أولياء الله، ففي الحديث :" من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب " وهاهو التاريخ يشهد بكل هذا, فكم هم الفراعنةَ الذين لم يستوعبوا الدروس؟ وكم هم الذين لم يأخذوا العبرَ. فأذاقا هم الله الخز ي في الحياة الدنيا, ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
أيها الأخوةُ في الله : هذه الملحمةُ الكبرى، وهذا النصرُ المبيُن لحزبِ اللهِ المؤمنين، والغرقُ والهلاكُ للطغاةِ والمفسدين، وقع كله في العاشرِ من هذا الشهر- شهرُ الِله المحرم - وعليه فيومُ عاشوراء يومٌ من أيام الإيمان، ومناسبةً تستحقُ الشكر والعرفان، بما شرع اللهُ لا بما يهوى البشر .
وقد قدّر المؤمنون على مدار التاريخ هذا اليوم, وعظموهُ, وكانت اليهودُ تصومُ هذا اليوم ويقولون : إن موسى عليه السلام صامهُ شكراً لله، فصامهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقال : « نحن أحق بموسى منكم " بل كانت العربُ في جاهليتها تصومُ ذلك اليوم, وتعظمهُ وتكسو فيه الكعبة » (1) ،وأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفةِ اليهودِ, وصيامِ التاسعِ مع العاشر فقال : « إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع » (2) يعني مع العاشر .
أيها الأحبة في الله : قدروا هذا اليوم, وصوموه قربةً لله وشكراً، واحتساباً للمغفرةِ والمثوبةٍ, فقد قال عليه الصلاة والسلام : « صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية » (3)
واسألوا الله النصر للإسلامِ والمسلمين، فالذي قدر النصرَ للسابقين قادر على إنزال النصر على اللاحقين .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .