الحلقة الرابعة
بعد وفاة الأمير علي بن مجثل سنة 1249هـ أوصى لابن عمه عايض بن مرعي في تسلم مقاليد حكم عسير ، ووافق على ذلك أهل الحل والعقد فيها .
وكان عايض بن مرعي من أشجع وأنبل رجال عسير وأشدهم في الحروب ، توسم فيه ابن عمه علي بن مجثل الشجاعة والإقدام ، ورأى أنه أهل لمواجهة الموقف العصيب الذي تمر به عسير ، حيث كانت حدودها الشمالية والجنوبية تتعرض لهجمات قوات محمد علي المرابطة في المنطقة
كان أول عمل خارجي قام به الأمير عائض هو مهاجمة أبي عريش ، ويعود السبب في ذلك إلى أن شريف أبو عريش علي بن حيدر رفض أن يبايع عايض بن مرعي ، مدعياً أن العلاقة بينه وبين عسير انتهت بنهاية حكم علي بن مجثل . فكان رد عايض بن مرعي أن جهز حمله كبيرة تقدم بها نحو أبو عريش ، ولكن الشريف علي بن حيدر تمكن من الصمود ، حيث ساعدته بعض قوات محمد علي التي كانت تتمركز في حصون أبو عريش ، مما أضطر محمد بن عائض إلى فك الحصار عن أبي عريش والعودة إلى عسير ، وذلك في شهر ذي الحجة من عام 1249هـ .
وكان السبب الرئيسي الذي أجبر عايض بن مرعي على فك الحصار عن أبي عريش هو أن الأخبار وصلته بتقدم حملة كبيرة من الحجاز بقيادة شريف مكة محمد بن عون وأحمد باشا يكن محافظ الحجاز ، مما اضطره إلى فك الحجاز إلى فك الحصار عنها والعودة إلى عسير للدفاع عن بلاده والوقوف في وجه تلك الحملة الكبيرة ، وقد نجح نجاحاً كبيراً في قيادة عسير لمواجهة قوات محمد علي ، فعلى الرغم من قوة الحملة وكثرتها واستعدادها ، وعلى الرغم مما حققته من انتصارات أوليه إلا أنها منيت أخيراً بهزيمة شنيعة ، واضطرت إلى الجلاء عن عسير بعد معارك قوية خاضها أهل عسير تحت قيادة أميرهم عايض بن مرعي .
ومن أسباب نجاح عسير في صد هذه الحملة الكبيرة :
1. صعوبة المنطقة ووعورتها أدت إلى نجاح عايض بن مرعي في حربة ضد قوات محمد علي ، فعندما كانت تهاجم قوات محمد علي المراكز الرئيسية للعسيرين كان العسيريون ينسحبون إلى أعالي الجبال فيكونون في منأى عن القوات المهاجمة التي كانت لا تجسر على التقدم إلى الجبال لصعوبة المنطقة .
2.الأسلوب الذي أتبعه عايض بن مرعي ، هو حرب العصابات والذي طبقه قومه بنجاح كبير ، الأمر الذي جعل القضاء عليهم أمر عسيراًُ لعدم وجود قاعدة معينه يمكن مهاجمتها والقضاء عليها .
3.جهل القوات الغازية بالمنطقة ، إذ كانت تنقصها المعلومات التي تعرفها بها إذا لم تكن هناك دراسة جغرافية واجتماعية قد أعدت لخدمة القوات المهاجمة .
4.الضرائب والغرامات الباهظة التي فرضها الجيش الذي قدم من أجل إخضاع عسير ، مما دفع القبائل إلى الإتحاد ضد العدو وقتاله حتى النصر .
وبعد الانتصار الساحق الذي حققه عايض بن مرعي على قوات محمد علي في عسير لم تقم لقوات محمد علي قائمة خلال السنوات الثلاث اللاحقة ، ولذلك فقد أستغل الأمير عايض هذه الفرصة حيث تقدم على رأس قواته إلى بيشة ، وتمكن من إخراج الحامية الموجودة بها التابعة لمحمد علي ، وضم بيشه إلى إمارة عسير وكان ذلك في عام 1252هـ ، ثم واصل عايض بن مرعي تقدمه باتجاه الحجاز ، حيث تمكن من إدخال قبائل غامد وزهران تحت طاعته ، ولم يكتف بذلك بل أخذ يكاتب بقوم وشلاوة من قبائل الحجاز عارضاً عليهم الدخول في طاعته . وكان ذلك بمثابة الاستعراض للقوة ، وتحد كبير لقوات محمد علي الموجودة في الحجاز .
وعلى الرغم أن عايض بن مرعي لم يقم بمهاجمة قوات محمد علي المتمركزة في بسل قرب الطائف ، إلا أنه ضل مسيطراً على بلاد غامد وزهران ، وكان يتردد بقواته على تلك المناطق من حين إلى آخر ليطمأن على بقائها تحت سيطرته . ولم يستمر هذا الوضع طويلاً إذ قام محمد علي بتكليف أحمد باشا باستعادة بلاد غامد وزهران من سيطرة عايض بن مرعي ، وقد أستطاع أحمد باشا استعادة بلاد غامد وزهران في أوآخر عام 1253هـ . عندها تركها أعوان الأمير عايض بن مرعي ، حيث توجه بعضهم إلى شمران بينما توجه البعض الآخر إلى بيشه ، كما أن عايض بن مرعي قد أرسل قائده محمد بن مفرح على رأس فرقه من قوات عسير إلى بلاد بني شهر لاستطلاع أخبار قوات محمد علي في بلاد غامد .
وظل عايض بن مرعي يشعر أنه يجب عليه مقاومة قوات محمد علي مهما كانت النتائج ولذلك فقد جهز جيشاً كبيراً من كل قبائل عسير وتوجه به باتجاه بلاد غامد وزهران لمواجهة قوات محمد علي المتمركزة هناك ، بهدف استعادة بلاد غامد وزهران من يد قوات محمد علي ، وكذلك بهدف انتزاع زمام المبادرة من هذه القوات ، فبعد أن كانوا هم الذين يحددون الزمان والمكان للمعركة ، رأى عايض بن مرعي أن ينهي هذه القاعدة ويقوم بمهاجمتهم في مواقعهم .
ولقد كان هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران أمنية أحمد باشا ، فطالما ذكر في رسائله أنه بانتظار هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران ، وأن لديه معلومات وافيه تؤكد التحضير لهذا الهجوم ، وقد أعد بكل دقة الخطة التي سيواجه بها هذا الهجوم .
وتمت المواجهة بين قوات محمد علي وبين أهل عسير في شهر صفر عام 1254هـ ، وحدثت معركة خاطفة اندفع فيها أهل عسير نحو قوات محمد علي المتمركزة في مواقع حصينة ، فأصلتهم القوات المدافعة ناراً حاميه ، وزاد من هول المفاجأة الخطة المحكمة التي وزع بها أحد باشا قواته ، فكلما حاولوا الدخول من جهة وجدوا فيها فرقة متمركزة ، فأدى ذلك إلى وقوع الارتباك في صفوف قوات عسير ، وعندما لم يتم لهم النصر في وقت مبكر لم يعد أمامهم سوى الفرار ، ووقعت أعداد كبيرة منهم في الأسر ، وسقطت أعداد أخرى بين قتيل وجريح .
ويذكر أن من بين الأسباب لهزيمة أهل عسير وهو غدر قبائل غامد وزهران بعسير ، ومهاجمتهم لهم من الخلف عندما ابتدأت الهزيمة تلوح في الأفق ، مما أحدث بلبلة كبيرة في صفوف العسيريين ، وقد قتل أعداد منهم على أيدي غامد وزهران ، كما سلبوا أسلحتهم وأمتعتهم أيضاً . وكان الأجدر بعايض بن مرعي أن يضع هذا العامل في الحسبان ، وأن يحاول نقل المعركة إلى مكان يأمن غدر أهله بدلاُ من أن يضع نفسه بين نارين ، أحمد باشا من الأمام وقبائل غامد وزهران من الخلف .
ولم يقتصر دور قوات محمد علي في الحجاز واليمن على المواجهة العسكرية مع عسير ، بل تعدى ذلك إلى تحريض بعض القبائل على الثورة على أمير عسير عايض بن مرعي عام 1253هـ وتشير الوثائق إلى أن ابن عطيف هذا كان يتعاون مع قوات محمد علي في الحجاز ، حيث عثرت على وثيقة فيها عهدة عسكرية لعدد من زعماء القبائل في الجزيرة العربية من بينهم أحمد عطيف ولم تشر الوثيقة إلى ماهية تلك العهدة وسببها ولكن تدل على أن قادة محمد علي في الحجاز دفعوا له الثمن الذي يمكنه من القيام بالثورة على أمير عسير آنذاك .
ولم يقف عايض بن مرعي موقف المتفرج من تلك الثورات التي قامت أثناء وجود قوات محمد علي في الحجاز واليمن ، بل قضى عليها بكل قوة ، ففي عام 1255هـ قضي أمير عسير على تمرد قبيلة ( الجهرة ) وهي من قبائل شهران ، التي قد أخلت بالأمن وسببت الكثير من المشكلات في المنطقة ، فلم يتساهل عايض بن مرعي مع هذه القبيلة ـ نظراً لظروفه الصعبة ـ وإنما قام بتأديبها وإجبارها على الخلود إلى الهدوء والسكينة .
وعلى العموم فقد استفاد عايض بن مرعي كثيراً من تجربته في بلاد غامد وزهران ، فلم يكرر مهاجمة تلك المناطق ، بل ظل يستفز أحمد باشا ، ويتظاهر باستعداده للهجوم على جيشه بين لحظة وأخرى ، وعندما حان موعد الانسحاب من عسير والحجاز ظل أحمد باشا خائفاً يترقب هجوم عايض بن مرعي . ولم يحرك عايض بن مرعي ساكناً بل ظل ينتظر ما سيسفر عنه ذلك الانسحاب . ولكن مما زاد من خوف أحمد باشا أن كثيراً من القبائل الخاضعة له عندما علمت بالانسحاب أخذوا يتوافدون على عايض بن مرعي بن مرعي ، مقدمين له فروض الطاعة والولاء بعد أن أصبحوا في مأمن من أحمد باشا وقواته . وكان أحمد باشا على علم بكل هذا ، ولكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا لأنه كان مشغولاً في التفكير في كيفية الانسحاب بجيشه من المنطقة بسلام .
ومن خلال إلقاء نظرة عامة على موقف عايض بن مرعي خلال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز يتضح لنا مدى صعوبة ذلك الموقف فقد ظلت عسير عموماً في حالة استنفار طوال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز ، وكان ذلك الاستعداد نتيجة حتمية لهجمات أحمد باشا المتلاحقة على عسير ، وعلى الرغم من أنها منيت في الغالب بالهزيمة إلا أنها قد أبقت عسير في حالة استنفار وترقب طوال وجود تلك القوات في الحجاز .
ومما لا شك فيه أن عائض بن مرعي قد تنفس الصعداء عندما بلغه خبر إنسحاب قوات محمد علي من الجزيرة ، لأن ذلك الإنسحال قد خفف عن كاهله عبئاً ثقيلاً ظل يحمله طوال وجود تلك القوات في الحجاز واليمن .
وقد أدى انسحاب قوات محمد علي من الحجاز واليمن إلى إزدياد أهمية عائض بن مرعي في عسير ، وذلك لكونه الأمير الوحيد في الحجاز واليمن الذي لم يعترف مطلقاً بسيادة محمد علي على بلاده من جهة ولم يمكن قوات محمد علي من السيطرة على عسير من جهة ثانية . فقد قضى عاماً كاملاً ويحارب هذه القوات حتى تمكن من إخراجها من عسير عام 1251هـ / 1845م .
وعندما علمت قبائل عسير الشمالية بإنسحاب قوات محمد من الجزيرة العربية أخذت ترسل وفودها إلى عايض بن مرعي مقدمة له فروض الطاعة والولاء . وفي الوقت نفسه سارع عايض بن مرعي إلى إعادة السيطرة على القبائل التي كانت خارجة عن طاعته أثناء وجود قوات محمد علي قي الحجاز . ففي عام 1256هـ أرسل عايض بن مرعي حملة لإعادة قبيلة بني عمرو إلى الخضوع لأمير عسير ، وكان على رأس تلك الحمله محمد بن مفرح المغيدي ، وقد عادت قبيلة بن عمرو إلى الطاعة صلحاً بعد مفاوضات بين قائد عايض بن مرعي وبين أعيان هذه القبيلة . وبهذا ابتدأ عائض بن مرعي في توطيد حكمه في عسير .
كما قام عام 1257هـ بتأديب قبيلة ربيعه المقاطره لإخلالها بالأمن والاستقرار ، كما قام بمساعدة أمير أبي عريش في إعادة بعض القبائل المتمردة إلى الطاعة والهدوء ، وفي عام 1258هـ قضى على الثورات التي أخلت بالأمن في (القهر) وبلاد قحطان .
وقد تمكن عايض بن مرعي إلى مد نفوذه وسيطرته حتى حدود الطائف شمالاً ، وأما جنوباً فقد مد حدوده في بلاد قحطان إلى حدود صعده ، كما قام عايض بن مرعي بمد حدوده شرقاً إلى نهاية حدود وادي تثليث حيث توجه على رأس حمله عام 1268هـ إلى بلاد تثليث فضمها إلى أمارته ونشر الأمن في ربوعها ، وقضى على الفوضى وقطع الطرقات فيها وبذلك دخلت تثليث ضمن بلاد عسير .
وقد ظل عايض بن مرعي يحكم عسير ثلاثاُ وعشرين سنه تمكن خلالها من توطيد دعائم الأمن في البلاد ، كما مد حدودها إلى قرب الطائف والليث شمالاً وإلى باقم جنوباً وتثليث شرقاً . وقد توفي رحمه الله سنة 1273هـ .