هذه احد القصص القليلة التي كتبتها
الشخصيات:
الكاتب : عمره الآن في حدود 55 سنة ، يعرف البطلة عندما كان عمره حوالي
30 سنة ، وعمرها 5 سنوات
البطل: نورة ، عمرها الآن في حدود الثلاثين
عبد الله ، ولد الراوي الأكبر
ابو حمد ، الرجل العجوز الأعمى
سائق الراوي ، الهندي شكير
سارة ، اخت الراوي ، في حدود سن نورة
أم صالح : العجوز ، عمرها الآن في حدود 90
محمد: الولد الأصغر لام صالح ، عمره الآن في حدود 70
علي: والد نورة
عمر : الأخ الأكبر لنورة
أبو دحيم: إمام الحارة
ناصر: ابن الإمام الآصغر ، يعمل مدرسا في المدرسة الإبتدائية
أبي أنت لست بأبي
كانت الساعة تشير إلى تمام الثالثة عصرا ، عندما وصلت إلى منزلي ، عائدا من العمل
كالعادة ، ترجلت من السيارة ، أهم بالدخول للمنزل ، فإذا برجل عجوز ، كفيف البصر
، تمسك بيده فتاة في حوالي الثلاثين من العمر ، ملابسهما رثة ، يتجهان إليّ ، وعلى بعد
عدة أمتار ، وهما ينزلان من رصيف الجيران ، يختل توازن الفتاة ، فتتعثر ، وينكشف
وججها لثواني ، كانت كافية بأن ألمحه ، والمح شامة صغيرة على الخد الأيسر . دخلت
المنزل ، فلا أحب أن تراني الفتاة ملاحظا لعثرتها. وعلى الفور توجهت إلى غرفتي ،
تمددت على السرير ، وفكري مشغول بذلك الوجه وتلك الشامة الغير غريبين عليّ.
ومح مزيد من الإسترخاء ، تنشط الذاكرة ، ترجع إلى الوراء خمسة وعشرين عاما،
قد تكون هي!! ها أنا في حارتنا القديمة ، شاب في حدود الثلاثين ، أعرف أطفال الجيران
فالبيوت الشعبية متقاربة ، والبعض منهم يدخل للعب مع أخواتي واخواني وأعرف من بينهم طفلة صغيرة ، جميلة ، مبتسمة ، وذكية تحبب الآخرين إليها بطريقة كلامها ومشيتها ومرحها ، لم يكن سنها يتجاوز الخامسة ، آنذاك . كانت تعيش مع والديها وثلاثة اخوة ، اثنين منها أكبر منها والثالث أصغر منها، في كل انسجام ، إلا ما يعكر صفوها أحيانا من غيرة اخوانها منها ، لما تحظى به من اهتمام من والديها ، فهي بنتهما الوحيدة . يا الهي! هل تكون هي نورة ؟ وماذا اوصلها إلى تلك المرحلة ، هل هذا هو أبوها ، تغير مع السنين وكف بصره ؟ أم زوجها؟ أم من ؟ أين أمها ، وأين اخوانها ؟؟اسئلة كثيرة ، لا استطيع الإجابة عليها . وفجأة أهب مسرعا ، أبحث عنهما في الحارة وما جاورها ، لكن لا أثر لهما.
وتمر الأيام ، كنت عائدا من العمل كالعادة ، وبنفس التوقيت تقريبا ، أهرب من الشوارع
الرئيسية المزدحمة ، في ذلك الوقت ، إلى شوارع فرعية ، داخل الحارات ، وفجأة ، أراهما.
كانا قد استوقفا سيارة ، والفتاة تتحدث إلى السائق . أقترب ، وتذهب السيارة بعيدا ، توقفت
عندهما ، قدما إليّ ، وتكلمت الفتاة . "الله يجزاك خير ، حنا ضعوف مساكين ، محتاجين
لمساعدتك ، جعله في موازين حسناتك" ، نظرت إليها ، أحاول التسلل من خلف النقاب ،
لعليّ ، أتأكد من الشامة والوجه الذي رأيته قبل عدة أيام ، كانت ترقبني ، بل ، لم تشح
بناظريها ، المتعبتين ، والحزينتين ، .. هل يمكن أن تعرف وجهي الذي أخذ منه الزمن
فبدى ذاويا ، شاحبا مع مرور السنين ، لا أعتقد . سألتها : "هل يسمع الشايب" ، ونطق
الرجل العجوز ، وكأنه يريد أن يؤكد لي أنه رادار قوي : "ياولدي ، اما تعطينا ، والا
تخلينا نروح نترزق الله" . وعلى الفور نزلت من السيارة وسلمت عليه بحرارة ، وقلت لم:
" لا .. ياخال ، حقكم أكبر من وقفة في الشارع ، تفضلوا معي ، نتغدى سوا ، وابشروا
بالخير ، إنشاء الله ، فأنا لا أحمل الآن ما يكفي من النقود" . وأمام الحاحي عليه وترجيه
وافق. وانطلقنا إلى البيت ، حيث في الطريق كلمت أحد المطاعم التي اتعامل معها في
المناسبات ليجهز غداءا دسما . وصلنا المنزل ، وبسرعة ، أدخل إلىأم الأولاد لأخبرها
أن ضيوفا من الجماعة قدموا للغداء معنا ، وأنهم جاءوا لمراجعة أحد المستشفيات ، وأن
عليها الترحيب والإهتمام بالمرأة ، وأنا والولد الكبير سنهتم بالشايب. رحبت بالشايب ،
وتركت عنده عبد الله ، ودخلت ، لأرحب بالضيفة ، لم تكن تتوقع دخولي ، فإذا أنا أراها
وجها لوجه ، إنها نورة .
تراجعت إلى الخلف ، عاتبت نفسي ، فكان من المفروض ، أن اشعرها بمقدمي ، سواءا
بطرح السلام ، من على بعد ، أو أن "أتنحنح" ، وهو قولنا "أحم" أو مااشبهها من الكلمات ،
أو الأصوات ، الدالة على الإستئذان . ورجعت إلى الرجل العجوز ، تناولنا الغداء سوية ، وأنا أحاول أن أشجعه على الحديث :
" يا أبو ... ، عفوا ، نسيت اسم الولد" ، ويرد علىّ باختصار " أبو حمد" ، وأكمل حديثي"
يا هلا والله ويامرحبا بابو حمد ، هذاي والله الساعة الف مباركة إللي شاركتنا فيها غدانا ،
ووسعت صدورنا " لم يرد بأكثر من "جزاكم الله خير يالمسلمين " ، كنت طوال الوقت اتأمل
في وجهه ، لعليّ ، أتذكر أي شخص مر عليّ في الحياة بمثل هذا الوجه ، وقلة الكلام ،
فلم استطع لحظتها . انتهينا من الغداء ، ولم يبق إلا دقائق معدودة على آذان العصر ، قلت
له ، " أبو حمد .. البيت بيتك وأطلب من الله ثم منك ما تحرمنا الأجر ، إنكم تغدون معنا
كل يوم جمعة " ، هز برأسه ، وكأنه يقول لا بأس ، ثم أكملت "ودك نصلي في البيت ، وإلا في المسجد" ورد : " لا .. أنا متعود أصلي مع جماعتي في مسجد حارتنا" ، قلت له " خلاص .. أجل أنادي البنت .. على فكره وش اسمها" ، فرد عليّ " نوره" ، فأرسلت أحد الأولاد الصغار يستدعيها. طلبت منه أن آخذهما إلى منزلهما ، لكنه رفض بشدة ، وقال " ما نبي نكلف عليك ، نأخذ تكسي ، أحسن" ، قلت له ، خلاص ، يوديكم السواق ، بس تراه جديد ،
وما يعرف الشوارع والحارات " ، لم يكن السائق كذلك ، لكنني أحببت أن يطمئن إلى أنني لن أعرف مسكنه ، قال : " أجل ، ما يخالف ، ياولدي ، الله يجزاكم بالخير" وهاتفت السائق من المطبخ وذكرته بأن يتصرف على أنه جديد ، وأنه لا يجيد اللغة ،وأن عليه أن يعرف الموقع جيدا . وذهبا بعد توديعهما مني والعائلة. لم يكن بوسعي أن أشرح ، في الوقت الحاضر كل شيء لزوجتي ، ورغم أن بعض الأولاد ، أثاروا بعض الأسئلة المحرجة ، مثل "شكلهم يبه شحاذين ، مو معقول جايين من الديرة ، وش معنى أول مرة نشوف هالنوعية من الجماعة " تجاهلت تلك الأسئلة وذهبت للمسجد ، وعلى أحر من الجمر لأسمع أخبار "شكير" ، السائق الهندي ، الذي يعمل معنا منذ عدة سنوات . رجعت من الصلاة ، وهاهو شكير يهم بدخول غرفته ، "هات العلوم ، وين وديتهم ؟" ، قال: "بابا ، هذا في حارة قديم ، كل شوارع صغير ، " لكن " ،( وهي هندية قحة ، تؤدي الغرض) ، وهز رأسه ، "أنا في معلوم" ، رديت عليه : "خلاص نروح الخميس ، والا بعدين ما في معلوم" ، هز رأسه ، وكأنه يقول "أخاف انسى"،
قلت له : خلاص ، نروح الآن . وصلنا إلى الحارة ، حارة شعبية قديمة ، هجرها غالبية
أهلها ، إن لم يكن كلهم ، وحل محلهم ، وافدون من كل الجنسيات ، لم نستطع الدخول
من الشارع الصغير الذي نزلا عنده ، واتجها من خلاله إلى منزلهما . تركنا السيارة ،
وسرنا على الأقدام في ذلك الشارع الضيق ، ولكن أين اتجها ؟ ، وأين منزلهما؟ ، تجمع
علينا بعض الأطفال ، وكأنني في الأمم المتحدة ، أطفال من كل الأقطار ، كان بينهم طفل
هندي في حدود السادسة ، قلت "يالله يا شكير ، هذا وقتك" ، رطن معه شكير قليلا ، وأنا
كالأطرش في الزفة ، أراد شكير أن يترجم ، أشرت له بالصمت ، فنحن محاطون بأطفال
قد يسبقونا لإخبارالكفيف وابنته ، بما حصل . وطلبت منه والطفل الهندي أن يتبعاني ،
خرجنا من الشارع ، وابتعدنا عن الأطفال ، وترجم شكير : أنه يسكن في الشارع الثالث
على اليسار. قلت هلموا بنا ، ولكن من شارع آخر ، لتجنب الأطفال ، الذين كانوا مشغولين بلعب الكرة ، التي لا تحتاج للغة ، ومن شارع آخر أوقفني على بعد حوالي 50 مترا من مسكنهم وأشار إليه ، ومن الحرص في الحيطة ، كنا نقف خلف زاوية أحد المنازل. كان
منزلا صغيرا قد لا يتجاوز عرضه على الزقاق الضيق أكثر من 5 أمتار، قديم جدا ، لا
نوافذ له ، مبني من الطين ، وبابه من الحديد ، تغير لونه فهو إلى الصديء أكثر ، لكن يبدو أنه لا يزال قويا. كان الوقت حوالي المغرب ، فكرت أن نصلي في نفس المسجد ، الذي من المفترض أن يصلي فيه ابو حمد ، ولكن قد يشك أحد في تواجدي ، فأنا غريب على الحارة ، ومميز بشكلي وملابسي التفت على شكير ، وكان من حسن الحظ في مثل طولي ، وقلت له " أنت فيه ملابس في سيارة ". قال : "ايوه بابا ، بس هذا قديم ، أنا فيه بعدين يودي مغسلة " قلت له "نرجع للسيارة ونتفاهم . أخذت مفاتيح السيارة منه ، وطلبت منه أن يسبقني إلى المسجد. ركبت السيارة ، وأبعدت عن الأنظار ، وفي شارع صغير ، ومع حلول الظلام ،
لبست ملابس شكير ، وانطلقت إلى المسجد . كان المؤذن يقيم للصلاة ، ومن لكنته ، فهو
من شبه القارة الهندية ، حرصت أن أكون في الصف الثاني وخلف المؤذن ، وتقدم الإمام
يلبس شماغا ، يميزه عن بقية المصلين ، ومع قرأته ، تبين أنه أيضا من تلك المناطق.
بعد الصلاة مباشرة ، بدأت أنظر يمينا وشمالا ، لم أر أبو حمد ، وكان شكير ينظر إليّ
من بعد ، وكأنه يسأل نفسه :"هذا فيه بابا والا .. لا" ، انتظرت حتى خروج غالبية
المصلين ، أخذت المؤذن على جنب ، وتكلمت معه بلهجة مصرية-هندية مكسرة. أساله
عن ابو حمد ، فقال : "هذا ما في مسلم ، هذا مافي صلاة " ، أكدت عليه بأن لا يخبر
أحدا عن سؤالي له ، وانصرفت. وجدت شكير يبحث عن السيارة ، التي تغير موقعها ،
أشرت له بالصمت وأخذته بيده ، وصلنا السيارة ، غيّرت الملابس ، وعدنا إلى المنزل.
في الطريق كنت سارح التفكير ، ماذا سيكون ردي على أسئلة الأولاد ، وما ستثيره أمهم
أيضا من أسئلة وتحقيقات ، وضعت لكل شئ حسابه ، ولكن من سيساعدني على معرفة
أن تلك المرأة هي نورة ، ومن سيساعدني على حل لغز ذلك العجوز الضرير. ألا يمكن
أن أكون مخطئا ؟ وأن نورة هنا ليست نورة الطفلة الصغيرة التي لا تزال صورتها عالقة
في ذهني بعد هذا العمر. أسئلة كثيرة ، إذا لا بد من العثور على من يؤيدني أو يخطئني.
إنها أم صالح ، ولكن هل لا تزال على قيد الحياة ، ثم هل ستتذكر أختي سارة التي كانت
تلعب مع نورة الصغيرة شيئا عنها وقد تركنا تلك الحارة ، منذ أن أرادت أختي الدخول في الإبتدائية ، وانقطعت علاقتها بها منذ ذلك الحين ؟ وصلت للمنزل ، أكدت على شكير بالمحافظة على سرية مشوارنا ، وإذا سئل فليقل ، " فيه يروح سوى سوى بابا ، فيه شغل
في سوق" ، كنت مرهقا ، لكن العائلة كانت مجتمعة ، وبدأت الأسئلة ، وأنا أجاوب بعموميات وكيف أنه علينا أن نحمد الله على أننا في وضع جيد ، وأن علينا الشفقة والرحمة بالآخرين والإحسان اليهم ، دون محاولة لمعرفة خصوصياتهم. بعد العشاء هاتفت أختي سارة وسألتها عن ذكريات الحارة القديمة ، وهل تستطيع تذكر الأطفال الذين كانوا يلعبون معها،
وكانت المفاجأة ، إنها تتذكر كل شئ عن نورة ، وكيف أنها تتمنى لو تلتقي بها بعد هذا العمر. سألتها عن أم صالح ، وهل تعتقد أنها لا تزال على قيد الحياة ، وكانت المفاجأة أكبر
أنها تزورها بين الحين والآخر ، وتتذكر كيف كانت تحنو عليها وعلى نورة ، وكيف أنها
أخبرتها قبل عدة سنوات أن والد نورة واخوتها الثلاثة توفوا في حادث أليم ، وكيف أن أمها
تزوجت من رجل آخر ، حيث أنها مقطوعة من شجرة ، وكيف أن إمام المسجد هو من قام
بدور وليّها ، وأتم الملكة ، وأنه هو من اختار الرجل ، حيث كان من سكان الحارة. وبدأت
خيوط اللغز تتكشف رويدا رويدا ، لكن من ذلك الرجل ، وكيف يمكن العثور على إمام المسجد ، هل لا يزال حيا . فمن الواضح من رواية اختي أن المسنة أم صالح ليس لديها
معرفة به ، بعد ترك الحارة ، إذاً من سيخبرني عنه؟ لكن ماذا يضر لو ذهبت إلى أم صالح
على الأقل اطمأن عليها وعلى صحتها ، وقد أظفر بشئ يساعدني على فهم ما أريد. أخذت
عنوانها فهي تسكن مع أصغر أولادها رجل في حدود السبعين سنة ، ذهبت إليها ، وعرفني
ابنها ، كانت في حدود التسعين عاما ، وبدأت في تحريك ذكريات الماضي ، حيث يرتاح
كبار السن لذلك كثيرا ، وفي منتصف الذكريات ، قلت لها " أم صالح .. الله يطول في عمرك
ويخليك لنا" ، وش سالفت تزويج الإمام لمرة على ، الله يغفر له" ، قالت "ياوليدي .. تعرف
بعدما توفي على وعييله في الحادث ..الله يسكنه فسيحات جناته وياهم .. والله ياوليدي ، ونعم
الرجال ، أيه ..ما يبقى إلا الذكر الطيب ، يالله إنك تجمعنا به في جنات النعيم ، يا هملالي
راحوا الرجال الطيبين ، الله وكبر من أول وحنا في سوق واحد ، وعايلة وحدة ، واليوم
شوفت عينك ، الجار ما يعرف جاره ، هذا آخر الزمان ونا أمك" ، رجعت وذكرتها بالسؤال
فقالت " وش تبيه تسوي ، مات رجله وعياله ، وأهله ميتين ، وما عنده إلا نورة ، لابد
ونا أمك للمرة من رجال ، ومثل ما قال حميدان " يطمع به الكلب لو هو جري"
واستمرت أم صالح في الحديث عن أهمية الرجل للمرأة ، وتستشهد بالعديد من أبيات الشعر
الشعبية ، التي تحفظها ، والأمثال والحكم ، كان لا بد من تذكيرها مرة أخرى بالسؤال ، وهذا متوقع ممن في مثل هذا السن ، فعلى من يحاول الحصول على معلومات من مسن ، أن يتركه يعبّر عن ما يريد ، ويرجعه بأدب ، وبأسلوب جيد للسؤال الذي يرغب في معرفة إجابته ،
.." أم صالح .. قلتي الله يخليك لنا ، ويجعلك بالجنة والديك ، إن عليّ وعييله توفوا في الحادث " .. وتقاطعني " انا قلت كذا؟" ، وأرد "أجل وش قلتي؟
قالت" ياوليدي ... ايه صح كان أبو علي مع عييله الثلاثة ، وبنيته ، نوره ، عاد تصدق
انه ما نجا منهم إلا هي ، ياحول .. جابوه ، لا حية ولا ميته ، طريدة ، تقلبّه أمه ، لولا ان
به نفس ، يروح ويجي ، كان قلنا ميته ، وقعدت مريضة عند أمه ، الين تزوجت أمه ، يا حليل هكا البنيه ونا امك ، والله اني أحبه بالحيل ، وكنت خايفة تلحق بابوه واخوته ، لكن
الحمد لله على ماجا من الله ، شي أهون من شي ، وبدت تحرك وتعافى شوي ، شوي ، إلى من الله أراد لابن آدم حياة ، حيا ، لكن كان به مثل البوهه ، تصدق حتى انا ياللي كنت مثل
امه وقبلي أللعبه واحبه وتحبن ، ما عاد تذكرن ، والله إني مدري وش صار عليه ياوليدي .. " وبدأت الدموع في عيني أم صالح ، وكأنها تتحسر على ما حصل لوالد نورة واخوتها ، ومن بعدهم لنورة نفسها ، فهي لا تعلم مصيرها بعد. آثرت عدم اخبارها بشئ عن نورة
حتى أنتهي من تفكيك رموز ذلك اللغز. وبادرتها "طيّب .. يأم صالح ، ماقلتي لي عن الرجال اللي تزوج أم نورة ، وردت " والله يا وليدي ما يمدحونه ، ماهوب طير شلوى ،
واقرد حظك ياخيتي (تقصد أم نورة) ، عقب ماكانت مع صقر ، صارت مع بومه ، أيــه
الشكوى لله ، هذي الدنيا ما عليّه مستريح". واستحثها لإضفاء مزيد من المعلومات عنه ،
" يعني .. يم صالح .. ماهوب رجل ." ، وترد " وش لون يصير رجل ونا امك وهو ماهوب
يصلي الفجر مع الجماعة ، وشلون يصير رجل ومحد يطب بيته ، وش لون يصير رجل
وهو واصلٍ الأربعين أو أكثر وهوما عنده مره " ، إذا هذه معايير اجتماعية لقياس الرجولة
من عدمها ، آنذاك ، كم من الرجال تنطبق عليهم تلك المعايير حاليا ، فتخرجهم من دائرة
الرجولة . أحسست بضرورة أن أعرف المعايير المماثلة للمرأة " " طيب يم صالح ..اذا
تشوفين أن الرجل اللي به هالامور ، ما هوب رجل ، أجل ، منهي المره اللي ما تعتبرينه
مره؟" وردت على الفور " كل اللي أعرفهن حريم ، انا ونا امك ما اعرف اللي ما به خير
لكن اسمع إن هناك حريم يقال عنهن حريم ، وهن ماهن حريم ، يعني ونا امك مثل الحرمة
اللي ما تخاف الله في زوجه ، واللي قبل طردي ما تقعد ببيته ، واللي اذا جت المواجيب
ما تعرف تطبخ الذبيحة ، واللي قبل تسدح بالبيت وتنام الضحي ، واللي إذا جت تمشي غدت
تلفت ، وبعضهن ، لاحول ولا قوة إلا بالله وسيع وجهه ، تواجه الرجل وتحكي معه ولو
انه غريب ، مثلما تواجه أي حرمة.. والله ونا امك أسمع أمور واجد ، أعوذ بالله ، الحريم
تغيرن هالايام ، يالله سترك" ، ما علينا ، يبدو أن الصورة أصبحت أكثر وضوحا ، ولكن
لا يزال هناك جوانب مظلمة ، قد لا تستطيع أم صالح إفادتي فيها ، هل أستطيع أن اقابل
الإمام ، قد يكون توفي ، لما لا أسأل أم صالح ، وعلى الفور "أم صالح وش الدنيا بالإمام؟"
"والله ونا أمك سمعت ، والله أعلم ، إنه تزوج في هالفايت ، الله العالم من قيمة عشر سنين
يقولون خذ له بنيّة بحدود ثمانطعش ، جابها له ولده من ديرة بعيدة ، والله مذكره ياوليدي
هالحين " ودخلت في الحديث عن "هالشيبان انهبلوا ، ما ندري إلا والواحد منهم جايبن له
بنت من هكاالديار" قاطعتها ، فلا أريد أن نخرج كثيرا عن الموضوع "لكن ام صالح ،
تدرون وينه ساكن؟ وترد " لا انشاء الله ، ولو جان طردته" طبعا متحامله عليه لأنه تزوج
على زوجته التي يبدو أن علاقتها معها كانت جيدة ، وممن من أجنبية ، ما هي مهظومة
شايب كبير وياخذ بنت ، وأجنبية ، بعد. ودعتها ، بعد تقبيل رأسها ، وعند الباب جاء
لتوديعي ابنها الأصغر محمد ، سألته ، هل تذكر إمامنا في الحارة "ابو دحيّم" ، قال نعم ، قلت أتدري أين أجده الآن ، قال : لا ، ولكن سمعت إن واحد من عياله يشتغل مدرس في المدرسة الإبتدائية . وفي الغد ذهبت إلى تلك المدرسة ، ووجدته ، وأخبرته عن رغبتي في
السلام على والده ، كنت خائفا أن يقول "يطلبك الحل" ، لكنه قال ، "والله الوالد هالايام عليه
قل صح ، تعرف رجال كبير ، الله يختم لنا وله بالخاتمه الطيبة" ، لم اعطه مجالا للإعتذار أو تأخير ، فقلت له ، إذا اعتبرها زيارة لمريض ، فكما تعلم توصية الرسول صلى الله عليه
وسلم ، بزيارة المرضى ، وأجر ذلك . أخيرا وافق ، وذهبنا لوالده ، في البيت ، فكبار
السن لا يطيقون المستشفيات . سلمت عليه وقبلت رأسه ، وعرفته بنفسي ، كان يعاني من
إرهاق ، وربما أثر عليه المكيّف ، لكنه كان قادرا على الترحيب ، وهو على فراشه ،
وتذكرت أنني عند مريض ، وأن كثرت الأسئلة ترهقه أكثر . حددت سؤالي : " أبو دحيم
الرجال اللي جوزته "أم عمر، زوجة على ، الله يغفر له" ، ما مدحوه ، أنت كنت تعرفه
مضبوط؟" ورد " أكيد اللي قالت هالكلام أم صالح ، هي حيّه الى هالحين " " والله ياولدي
ما يعلم بأسرار الناس إلا الله ، رجال مسكين جاني وقال لي أدور له حرمه ، وعلمني
إن حرمته الأوله ماتت ، وكان له منها بنيّة ، ربتها جدتها ، وماتت وهي صغيرة ، حسب
كلامه وهي في حدود الثلاث سنين ، وشفت حال أم عمر بعد فقد عيالها وزوجها وانها
مقطوعة من شجرة ، قلت التوفيق بين راسين بالحلال فيه أجر عظيم ، واجتهدت ووفقني الله
سبحانه وتعالي ، ومن عقب ما جوزتهم معاد أدري وين راحوا ، ولا عنهم الطير خبر ،
عندك علم عنهم؟ قلت له : "طيب تذكر اسمه بالكامل ، قال إيه ، ولو تجيني إذا طبت ونشطت
أدور لك على صورة من عقد الزواج اللي كتبته ، يوم أجوزهم. إذاً أنا أمام وثيقة هامة جدا،
يجب أن لا أفرط فيها ، قلت له: "تخبر يبو دحيم أنا جايك من مكان بعيد ، ودي والله لو
تقول لناصر (ولده الأصغر ، المدرس) لو يجيب الصندوق ، ونا أدورها " وأمر ولده بإحضار
الصندوق ، كان ملئيا بوثائق كثير مطوية ، الغالبية بدت تتحلل ، لقدمها ، وهاهي صورة
العقد.
وكانت المفاجأة ، أبو حمد ، اسمه علي ، وإسم أبيه حمد ، وهو نفس اسم أب علي
واسم عائلته هو نفس اسم عائلة علي ، باختلاف بسيط ، وهو وجود الشدّة ، على
اسم عائلته ، فعلى سبيل المثال:"السعيّد" ، لاتختلف كثيرا عن "السعيد" ، بل قد تكتب الكلمة الأول دون شدّة ، فيبدو لمن لايعرف بشكل دقيق الفرق بين العائلتين ، أنهما عائلة واحدة . وما دام أن الإمام ذكر أن أبو حمد سبق أن تزوج وماتت زوجته ، ومن ثم بنته ، فإن اسم بنته ، قد يكون نورة ، ولكن كيف أجد اسم زوجته بالكامل ، واسم أم نورة بالكامل ، بالطبع قد نجد ذلك في سجل أبو حمد المدني. وتوجهت بعد ذلك إلى صديق في دائرة الأحوال المدنية ، شرحت له كل شئ ، واستخرج لي نسخة من سجل أبو حمد ، وجدت فيه اسم زوجته الأولى ، ولم يشر في ذلك السجل إلى وفاتها ، ووجدت فيه اسم ابنته نورة ، ولم يشر أيضا إلى وفاتها ، ولم أجد شيئا عن زواجه من أم نورة ، إذ لم يوثق عقد الزواج الذي كتبه الإمام ، ولم يسجل في دائرة الأحوال المدنية ، إذاً تم دفن جثمان أم نورة ، على أنها زوجته الأولى ، ولم ينتبه أحد إلى ذلك ، حيث ، عند وفاتها كان حديثي السكن في حي لا يعرفون فيه. إذاً فأبو حمد ، هو الأب الرسمي لنورة ، ولكن لماذا ادعى بنوتها ؟ يمكن إرجاع ذلك لسببين:
1) التحكم في تزويجها ، حيث لو ذهبت عنه فمن سيهتم به ، ومن سيقوده في عمله وهو رجل كفيف.
2) أن محبته لأبنته المتوفاة ، جعلته يتمسك بنورة ، لتعوضه عن ابنته.
ولكن هل تعلم نورة بكل ذلك ، أم أنها ، عندما تزوج أبو حمد من أمها كانت فاقدة الذاكرة
بسبب الحادث ، واستعادت الذاكرة بعد وفاة امها ، ولم تجد أمامها إلا أبو حمد؟ إذاً لابد
من مواجهتها مع اختي سارة زميلة طفولتها ، وأم صالح ، التي كانت لها بمثابة الأم.
اليوم الخميس ، وانا على موعد مع أبي حمد وابنته ليأتوا إلينا على الغداء ، يوم غد الجمعة،
لابد من سرعة التحرك ، لابد من دعوة اختي ، وام صالح ، ليأتيا لوحدهما فقط في نفس الموعد ، وفعلا وصلتا ، قبل وصول أبو حمد وابنته ، ونبّهت على العيال وزوجتي باستقبال
نورة ، وكأنها تزورنا لأول مرة . وجاء أبو حمد ونورة ، كانا يلبسان ملابس نظيفة ، ولا يبدو عليهما أي أثر لمهنتهما ، ودخلت نورة . القت بالسلام على الحاضرات ، أخذتها أختي
بالحضن .."نورة...نورة ... ياحبيبتي وينك طول هالسنين. وسمعت أم صالح الإسم وصراخ
اختي ، فانتهضت قائمة ، وأخذت نورة بالحضن ، وبدأ البكاء والنحيب ، ونورة لاتدري ماذا يجري ، كنت حريصا أن لايخرج الصوت بعيدا حتى لا يسمعه أبو حمد ، بدأت نورة تستمع وتركز ، كلما شرحت لها أختي وأم صالح عن طفولتها ، وعن أمها ، وعن أبيها وأخوانها ، فانهارت مغما عليها. وأفاقت ، بعد بضع دقائق ، بعد رش قليلا من الماء البارد عليها ، بدأت تجول بناظريها بين الحاضرات ، وفجأة رمت بنفسها على أم صالح وأخذت تبكي بكاءا شديدا
وكأنها تستلهمه من بكائها عندما كانت طفلة في أحضان أم صالح ، التي تعودت على حضنها
وتقبيلها والحنو عليها ، ورمت بنفسها على اختي ، واخذت بها تقبيلا ، ثم جالت بنظرها
يمينا وشمالا ثم قالت: أجل وين أمي؟ كانت أم صالح امرأة قوية الإيمان بربها ، أدركت
أهمية وجودها بيننا ، أخذتها بالحضن مرة أخرى ، وبدأت تتحدث عن الآخرة ، وما أعده
الله للمؤمنات الصابرات من نعيم مقيم ، ليعوضهن عن كل اللآم والمعاناة التي يتعرضن لها
في الدنيا ، ثم عرجّت على كيف نولد فرادا ، وكيف يأخذ ربي أمانته ، لنذهب إليه فرادا
ونتقابل مع أهلنا ومن نحب في الجنة. كانت نورة تستمع بإصغاء ، وعيناها تغرورقان بالدموع ، وانفجرت مرت اخرى في البكاء ، وام صالح تردد بعض الآيات الكريمات التي
تحض على الصبر عند المصيبة ، وتطلب من نورة التعوذ من الشيطان . علمت نورة بما
حدث لإمها ، وتذكرت الحادث الذي أودى بحياة أبيها وأخوانها الثلاثة ، وكيف أن آخر
شئ تتذكره صرخة الكوابح ، حيث كان أمامهم في الطريق سيارة كبيرة متوقفة ، وأن ذلك
كان بعد العشاء ، وأم صالح تستمع وتقوم بدور كبير في نقلها من مرحلة لأخرى ، وحان
وقت الغداء ، ذهبت مع الأولاد الكبار حيث تغدينا مع أبو حمد ، والنساء يتغدين في الداخل
وام صالح تصر على نورة أن تأكل ، وانتهى الغداء مع آذان العصر ، أصريت على ابو
حمد أن يصحبني للمسجد ، وفعلا قام وتوضأ ، وذهبنا سوية للمسجد ، وبعد الصلاة استمعنا
إلى أحد الوعاظ ، يذكر بالموت ، وكيف أنه بيينا في كل مكان وزمان ، وماذا ينتظرنا
من اما نعيم أو عذاب في القبر، كان إلى جانب أبو حمد رجلا يستمع معنا ، ولم يحس أبو
حمد إلا وجسم الرجل يميل إليه ، يحاول ابعاده ، لكن الرجل يميل أكثر بجسمه إليه كلما
أبعده ، توفي الرجل ، في تلك اللحظة ، وسمع الواعظ ، وهو يقول "والآن هاهو ملك الموت
يقبض روح أحدنا ، انظروا إليه إنه من يجلس بجانب الرجل الكفيف ، أدعوا له بالمغفرة
والرحمة ، ولا أدري على من سيكون الدور" ، نقل الرجل خارج المسجد ، وأبو حمد
ثابت في مكانه لا يبرحه ، أتيت إليه ،وقلت له " يالله يبو حمد ، مشينا " وقام متثاقلا ، كان يحس بصدمة قوية ، يبدو أنه كان لها أثرا كبيرا في إيقاظ ضميره وجعلته يبكي ونحن في الطريق إلى المنزل ، وعند المنزل رفض الدخول ، وقال "نادوا نورة ، نبغى نمشي" ، وأصريت عليه بالدخول ، على الأقل حتى تجهّز نفسها ، وفعلا دخل بانتظارها . ودخلت إلى النساء ، وأخبرت زوجتي بأن أبو حمد بانتظار نورة ، وقالت لها زوجتي ذلك ، نظرت إلى زوجتي في دهشة وقالت:
"من أبو حمد ؟ أنا أبوي على ، ما أعرف واحد اسمه أبو حمد" ، فشرحت لها ام صالح
انها الآن تعيش مع زوج أمها ، وكيف أنها تدعوه "بأبي .. أبو حمد" وما هي إلا لحظات ،
وإذا بأبي حمد يدخل ، "تعالي يانورة .. تعالي ونا أبوك " . غطت وجهها ، ونظرت إليه
وقالت " أبي .. أنت لست بأبي" ، " وأنا لست ابنتك ، اذهب لوحدك " ، لم يقاوم أبو حمد
ولم ينبس ببنت شفه ، خرج ، وطلب من السائق أن يوصله . وتتزوج نورة فيما بعد
ويتوفى أبو حمد ، ليسدل الستار على "أبي .. أنت لست بأبي".