اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد محمود الفردي
ذكريات بين القبور
أخذت الشمس تميل نحو الغروب وأبتدى قرصها الدامي في الأختفاء خلف المرتفعات الغريبة لمدينة الأحزان واأخذ الهدوء والسكينة يسيطران على ذلك الجزء من المقبرة الغريبة حيث أخذ آخر المواكب في مغادرتها والأبتعاد عنها..
وكانت عيناي تتابعان في حزنٍ ولوعة هذه الأفواج المغادرة وطفلٌ وطفلة أمتدت إليهما يدٌ قاسية لتفرق بينهما وتنتزعهما من ذلك المكان أنتزاعاً، وعند ذلك آخذت صور الماضي تتجسد أمام ناظري ورجعت بي إلى عالم صغري ،
وعندما كنت صغيراً وكانت للمواسم والأعياد أهميتها خصوصاً ونحن نحمل (الماء وجذور الصبار) في بكرة الصباح للمدافن وهناك كنا نضعها على القبور أعتقاداً منا أنها تخفف عن أصحابها حرارة الشمس وترطب أجسادهم.....
وكانت ( ريم) تحمل ما أحمله أنا وأخوتي...............
كانت طفلة صغيرة جميلة بريئة كالوردة الخجولة وكنت أشعر تجاهها شعور الطفل بالطفل الذي يلهو معه....
وكنت لا ألتقي بها إلا نادراً ، حيث كان والدها يمنعها من الخروج إلا مع والدتها مع إنها لم تبلع العاشرة من عمرها بعد...
كان والدها عندما يراها تلهو وتلعب معي ومع ابن عمها ( سالم ) ينهرها ويضربها وكانت والدتها تنتهج نفس منهاج والدها
لذلك نَشَأت ( ريم) ساكنة ساذجة ... لا تتكلم إلا نادراً وإذا تكلمت فغالباً ما تتوقف قبل أن تكمل حديثها...
ولقد توالت الأيام واللحظات وأصبحتُ طالباً بالإعدادية ، فكبرت ( ريم ) كذلك لم تواصل دراستها بعد الإبتدائية...
كنت أتوقع ذلك وقد أصبحت ريم تترعرع ويبدو عليها ملامح الأنثى الناضحة أن يمنعها والدها من الذهاب الى المدرسة وهذه عادة سيئه نعاني منها نحن أهل البادية ( البدو) ولم يكتفِ والدها بمنعها من الخروج فقط وإنما فرض عليها الإسدال وهو جلباب تلبسه المرأه لا يظهر منها شئ
ومرت اللحظات والأيام والسنين وكنا نتقابل نادراً لكنها بلا شك كانت من أجمل لحظات حياتي التي أقضيها برفقتها...
كنا في أغلب الأحيان نتقابل ونحن نزور المقابر في الأعياد وهذه كانت عاده سائده عند أهل البادية
أيضاً عند رجوعي من المدرسة كنت أذهب من الطريق الذي يمر بي من جوار منزلها لأرى ولو نظرة من عينيها ولكن للأسف كانت كل محاولاتي تبوء بالفشل لأن والد ريم أكتشف أمري فبات ينتظرني كل يوم ويوجه لي اللعان ويسبني وينهرني ويقول لي بغلظة ( لماذا تأتي من هنا وهذا الطريق يبعد كيلو مترات عن منزلكم لماذا؟ )كنت أجاوب عليه ( بالصمت)
وأقول في نفسي والله الكيلو مترات التي تقول عنها لا تساوي في نظري سنتمترات لو أنني رأيت (ريم) ولكنها كل يوم تصبح أميالاً برؤيتي لك..............
وفي يوم لم أنساه عدت من المدرسة وجدت ريم أمام منزلها ولم أجد والدها فتعجبت وزادت حيرتي من نظرات الشفقة التي كانت ترميها لي (ريم ) بعينيها البريئتين فذهبت إليها ولكنني لم أكمل الخطوات حتي ظهرت والدتها ونهرتها وأمرتها أن تدخل بالداخل.....
فذهبت الى المنزل ولكن حيرتي لم تزل إذ أنني وجدت والد ريم بالمنزل عندنا وزاد من حيرتي أكثر وأكثر المعاملة التي عاملني بها والد ريم معاملة رقيقة فيها حنو وحنان ورقة تعجبت لها فكيف وهذا الرجل الذي طالما عاملني بقسوة ووحشية وغلظة أن يعاملني بهذه المعاملة الحانية......
فدفعني فضولي الى الدخول بالمنزل فوجدت جمع غفير من العجائز والنسوة بجوار غرفة والدتي فأندفعت بشدة نحو سرير أمي وقد كنت تركتها قبل ذهابي الى المدرسة تعاني بعض من وعكة صحية.....
وأكتشفت أنها فارقت الحياة فأرتميت على صدرها أقبلها ودموعي صارت هي المياه التي تغسِّلها ولم أشعر بنفسي إلا وأنا على سرير في مستشفي المدينة فصرخت وأنا أقول ماتت يا والدي أمي ماتت ..
ومضت الأيام وأعقبتها أيام أخرى وخرجت من المستشفى وكلي أمل أن لا يفوتني إمتحان الإعداية وكان هذا مراد والدتي أن أتخرج وأكون شخص له مكانته في المجتمع وبفضل الله أنهيت الإمتحان ونجحت وبتفوق...
وذهبت الى الدراسة في مدينةٍ مجاورة لأن مدينتنا مدينة الأحزان لم يكن بها مدرسة للثانوية وبالتالي أفترقت أنا و(ريم ) ولكن طيفها لم يغيب عني ولو للحظةٍ واحدة ..... أنهيت الدراسة وكعادتنا زواج الأبناء المبكر فأرسل لي والدي يريد أن يزوجني
طبعاً كنت أخجل منه لم يكلمني بالأمر بنفسه ولكنه أرسل لي عمتي فقلت لها هذا اليوم المنتظر فطلبت منها أن تقول له أنني أوافق ولكن أن تكون (ريم ) هي عروس المستقبل فلم يمانع والدي وذهب في اليوم التالي الى والد ( ريم ) ليطلب يد ابنته(ريم) لي وقد كنت أتجول بجوار منزلها لأن صبري لم يمهلني حتي يرجع والدي ولكن أخذ بي الى حيث تكون (ريم) ومن رحمة الأقدار أنني رأيتها وهي تحضر الطعام الى الأغنام فرأيت فتاة فاتنة غير ذي قبل ترعرعت ونشأت في حسنٍ وبهاء لم أرها عليه من قبل فأشرت لها بالتحية وأنا متخفي فردت هي التحية وذهبت مسرعة الى الداخل من الخجل.....
وكان والدي يتحدث مع والد ريم بالداخل فخرج والدي بوجهٍ حزينٍ شاحب فأنطلقت نحوه وقلت له ما الأخبار يا أبي ماذا قال لك والد ( ريم )؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فقلت أبي ألم يوافق والد ريم ؟ هل رفضني؟ ماذا بك يا أبي تكلم!
فأجابني والدي بكلمات قليلة قال لي كل شئ قسمة ونصيب...وهناك الكثير من البنات أختر ما تشاء منهن وأنا أذهب لخطبتها لك
فقلت في ثورة والدها لم يوافق يا أبي ولكن والدي قاطعني وهو يقول لا تظلم الرجل يا ولدي فأبن عمها ( سالم) طلبها قبلك وابن العم أولى منك بها ،
هنا تذكرت أيام طفولتنا عندما كنا صغاراً نلهو ونلعب أنا وهي وابن عمها وكان سالم يقول سوف أتزوج بك يا ريم وانا أضربه كلما قال هكذا ، فحقدت على أبوها وعلى سالم ابن عمها
واندفعت الى حقيبتي ووضعت بداخلها ملابسي دون أن أرتبها وأنا أردد خطبها ابن عمها خطبها ابن عمها...
وذهبت دون أن أودع والدي ولا أخوتي وخرجت الى الطريق وأنا أكره هذه البلده التي لم أرى فيها سوى أحزاني..
بينما أنا أمر من أمام منزل ( ريم ) علني أراها ولو للحظةٍ أخيرة أمتع بها نظري إذ بقدمي تتيبس وتتحجر أمام منزلها من هول ما رأيت جمعٌ غفير من الناس ورأيت عبد الحليم أخ ( ريم) (والعبرة تخنقه) فناديت عليه بصوت عال عبد الحليم ماذا؟ بك لماذا هذا الجمع؟ ولماذا كل هذا البكاء؟
فهرول اليَّ مسرعاً وارتمى بين أحضاني وهو يقول ماتت يا خالد ماتت ياخالد
وأنا أصرخ في وجهه واسأله من الذي ماتت من؟ من؟ من؟ قل يا عبد الحليم .........
فجاوبني وليته لم يجاوبني صعقني بتلك الإجابه( قال ريم التي ماتت) لم تحتمل أن يزوجوها بهذا الشخص الجاهل العاطل الذي طالما كانت تكرهه منذ كنا أطفال
سقطت مغشياً عليها فور سماعها لهذا الخبر ولم تمهلنا أن نذهب بها إلى المستشفى وغادرت الحياة
أسرعت نحو منزلها وأنا أريد أن آراها وهذا في حد ذاته قمة الجنون فقابلت والدها وابن عمها فوجهت لهما التهام واللعان والضربات أيضاً ......
وأنتهى بي الحال الى قسم الشرطه ومراعاةً منهم لحالتي تركوني مع أخذ تعهد عليَّ بعدم التعرض لأحدهما.....
منذ ذلك التاريخ وأنا أمر كل يوم الى هنا أزور قبر أمي وقبر أم مشاعري ( ريم)
أتذكر أيام الطفولة وأيام الشباب
أتذكر حياتي قبل أن أموت داخل جسدي
تقديري
خالد الفردي
|
أخي خالد.....
ماأجمل قصتك وما أروعها...
وتأثيرها....الله ..الله..لا يوصف...
أسعدني قرائتها والتبحور في معانيها وأسرارها..
شكرا لهذه الرائعه...
منيه..