قصة مؤثرة حدثت أيام أزمة الخليج ( الوفاء .. امرأة )
في خضم تحضيري هذه الأيام لزفافي .. كنت أرقبها.. بإطلالتها الهادئة.. ومسحة من حزن عميق تلقي بظلالها على قسماتها..
عينيها الساجيتين دوماً.. الغارقتين بتأمل ملتاع في ماضٍ لن يعود..
أختي منيرة..
أو فلأقل عنها.. الوفاء.. حين يتجسد في صورة أنثى..
هذه المخلوقة الرقيقة كوردة.. الشفافة كدمعة.. العذبة كقطرة ندى.. لها قصة.. هي من أعجب القصص وأشجاها..
قصة حبها.. قصة فجيعتها.. قصة أوجاعها.. وحكايات كثيرة.. ترويها دمعاتها الصادقة في تساقطها كلما حضرت زفافاً.. أو ذكر اسم ( سعد ) أمامها..
كانت أختي منيرة.. في بواكير العشرين.. وإطلالة الصبا.. حين رسمت مع سعد.. ابن عمتنا.. أروع قصص الحب التي سمعناها أو قرأناها.. فضلا عن أننا عايشناها..
كان سعد.. نقيباً عسكرياً.. ويعمل في السلاح الجوي.. وكان كأقرانه ذلك الوقت.. حلم أي فتاة.. بشاراته العسكرية اللامعة على كتفيه.. بقامته الرياضية الممشوقة.. وبلونه الأسمر الذي لوحته التدريبات القتالية التي نسمع كثيراً عن قسوتها وعن أنها تصنع الرجال.. كان للحديث عن سعد في مجالسنا رونق غير كل الشباب.. كنا نلمح بين ثنايا حديث عمتي إعجاب سعد الكبير بأختي منيرة.. وعزمه على خطوبتها فور انتهائها من الدراسة الجامعية.. تأخرت منيرة في تخرجها.. فتقدم لها سعد في السنة النهائية ووافقت فوراً.. لقد فاض شعورها وأخذت تعبر عنه بطريقة كنت أحسها رغم أني كنت طفلة.. أذكر يوم خطوبتها.. كيف احتضنها والدي.. ودعا لها كثيراً.. كيف أجلستني بجوارها تمشط شعري وتقول.. إذا سافرت أنا وسعد بعد الزواج سوف آخذك معي .. سعد ( عسكري ) وسيظل أغلب الوقت خارج المنزل.. وأنت ستكونين مثل إبنتي .. !!
ياه .. كم كانت أحلامك عريضة يا منيرة.. !
وتم كل شيء على وجه السرعة.. ساعد بذلك.. ذلك الجو المشحون بالحب واللهفة والشوق والذي كنا نحسه متبادلاً بين سعد ومنيرة.. والأمر الآخر.. إن فترة الخطوبة قد طالت.. وأزمة الخليج عام 90 كانت في بدايتها.. ولكننا بالطبع. لم نستشعر خطر تلك الأزمة.. إلا بعد انتهائها.. فنحن نعيش ببلد آمن.. ولا نعرف أننا نخوض حرباً.. وأننا مهددون بالخطر في أي لحظة وقتها.. !!
امتدت الأزمة.. وامتدت على إثرها الإجازة.. وقررت العائلتان تعجيل الزواج.. بناءً على رغبة سعد الملحة.. وموافقة منيرة وما أن عقد قرانهما.. حتى شعرنا أنهما طيران خلقا بروح واحدة..
وحلقا بعيدا عنا.. وعن كل ما حولنا.. كانت عيناً أختي منيرة عندما تتحدث عن سعد .. ياه .. كيف أصفها.. كانت لكثرة حبها له.. عندما تتحدث عنه.. تلتمع عينيها بالدموع..
كان حنان أختي منيرة من ذاك النوع المتوهج كأشعة الشمس الدافئة التي تتسلل لأوردتك.. ولكن الحب جعلها أكثر حناناً.. وأكثر رقةً.. وتعطي بلا حدود.. !
يوم زواجهم كان أسطورياً.. ولا يفهم من أسطوري.. أنه ضخم فخم.. لا .. بل إن هناك نوعاً من الزيجات.. تشعر لجماله.. وجمال الأرواح التي عقد زواجها.. تشعر أن هذا الجمال يمتد ليغطي كل مساحات الفرح ذاك اليوم.. تشعر أن كل من حضر زفافهما سعيد.. وكل من رأى منيرة أو صافح سعد.. سيشعر حتماً بالسعادة.. كانت كلمة الجميع تلك الليلة.. ( لقد خلقا لبعضهما .. ! )
لا زلت أذكر فيما أذكر من فصول هذه القصة.. يوم أن غادرا الصالة.. ومنيرة تلملم أطراف فستانها بارتباك.. ولا تدري هل تحمل معها مسكة الورد.. أم تضعها مع الحقيبة..؟! أسرعت إليها أنا وأختي منال.. فأعطتنا مسكتها وقالت أمسكيها حتى أركب السيارة.. وجاء سعد ليبتسم بعذوبة.. ويأخذها مني .. لينتظر عروسه أن تضع قدميها في السيارة.. ثم يضع الورد بين راحتيها وينحني عليها هامساً..
كنت بتوق طفولي أود سماع ما يقوله.. لكنه أبعدني بلطف.. ثم أغلق الباب.. وغادرت سيارتهما..
كان طيفهما يرحل كشفق غارب أراه أمامي للآن.. ابتسامة سعد الراضية تلك.. لا أنساها..
رغم أني كنت صغيرة.. إلا أنني أدرك معنىً عظيماً قد لا يدركه الكبار.. وهو معنى الرضا.. أو السعادة المرضية..
غادرا وبقينا نحن في الصالة.. وإذ بصفارات الإنذار تصرخ بصوتها المرعب.. فيرتبك الجميع.. وتتفرق الحاضرات.. خرجنا ونحن مرتبكون وخائفون.. توجه الكل لمنازلهم.. وبقينا طوال الليل والفجر نحاول الاتصال بمنيرة وسعد دون جدوى.. فشقتهما ليس فيها هاتف.. وكيف لعروسين أن يشعرا بما حوليهما.. وأن يتصلا بنا لطمأنتنا.. ؟
كنا نلتمس لهم العذر.. ونراقب التلفاز.. ونسمع الراديو.. ونحن في قمة الخوف والتوتر.. هناك قصف.. آه كم هي مؤلمة هذه الكلمة التي لم يعرفها قاموس بلدنا.. ولا أي بلد مجاور.. كلمات كثيرة سمعتها ذلك الوقت.. وكم أكره سماعها ثانيةً.. حالة استنفار.. ضبط الأعصاب ومحاولة الاحتماء.. إتباع تعليمات السلامة.. إشارة قرب الخطر.. وقوع الخطر.. زوال الخطر..
أذكر أني بقلبي الطفولي البرئ.. كان مجرد مرور طيف سعد أمامي يبعث الارتياح.. أراه ببدلته العسكرية يقاتل.. ويمنع الأعداء من الاستيلاء على أرضي .. أو التعدي على أحد من أسرتي .. كنت أقول ذلك لأمي بسذاجة وبفخر.. فتقول.. أدعي ربك يا ابنتي أن يحفظنا.. ويحفظ سعد.. وكل المسلمين..
وأما ما بقي من طيوف سعد.. فهو ما لا أطيق روايته.. ولا أستطيع الحديث عنه.. فكيف سأصف لكم منظر أختي منيرة صباح ذلك اليوم.. كيف جاء بها أبي من بيتها كتمثال شاحب.. تهتز كعصفور صغير ضعيف.. وعلى وجهها الجميل بقايا زينتها التي لم تمحها بعد..
لم أستوعب لحظتها كل ما سمعته..
لكن الشيء الوحيد الذي استوعبته.. وفهمته ووعيته.. رأيته في عيني أختي ذلك الصباح.. لقد كانت عينيها كعيني من فقد النظر.. كانت تحدق في شيء لا أدري ما هو..
كانت عينيها جامدة تماماً. لا بكاء.. لا تعبير.. لا نظرة..
أرعبتني عيناها.. لقد أدركت بغريزتي أن منيرة قد فقدت شيئاً هائلاً.. شيئاً تعتمد عليه تماماً.. ولا تستطيع الاستغناء عنه.. كمن يفقد بصره فجأة.. فكيف يقوى على الاحتمال.. قالت بشرود.. ( طرق الباب بشده.. وسعد جالس معي..
رفعت عينيها لأبي وقالت وعلى شفتيها تنتحر آلاف الكلمات.. لقد كان معي سعد يا يبه.. لم يكن معي فقط.. في تلك اللحظة بالذات كنت وسعد شيئاً واحداً.. ثم أخفضت رأسها وتابعت تتحدث: قام ليفتح الباب.. وتحدث بسرعة وارتباك مع رجل ما.. عاد إلي وقد امتقع لونه.. و.. وخذلت الكلمات منيرة فغصت بها ولم تستطع إكمال حديثها..
كانت كلماتها تلك.. آخر ما سمعته منها قبل أن تفقد النطق لمدة عام تقريباً..
كل ما فهمته.. وعرفته.. أن سعد استدعي ليلة زفافه.. ولبى نداء الدين والوطن.. ارتدى ملابسه العسكرية.. وودع روحه التي سكبها في قلب منيرة لتحيا بها ما تبقى من عمر دون سعد..
ونعي إلينا سعد..
شهيداً.. فجر زفافه..
وغاض كل شعور جميل.. وكل بهجة وسعادة من حياة أختي منيرة..
العروس.. التي فجعت بحبها.. في ليلة فرحها..
كانت كظامئ منذ ألف عام.. ولما قرب الكأس من شفته.. حرم منه للأبد..
بقيت منيرة صامته تماماً لمدة عام وأكثر..
لا يفيد معها علاج.. ولا أي شيء آخر..
حتى جاء ذلك اليوم.. الذي نذكره جميعاً..
يوم أن خطبت من ابن خالتي ..
نطقت منيرة يومها..
قالت بصوت متقطع انكرناه ولا نعرفه.. بل أننا نسيناه..
( والله.. ما يلمسني رجال.. غير سعد.. )
وغادرت المجلس..
ثم عادت..
قبلت رأس أبي ..
وبكت..
وقالت بصوت متقطع.. كصوت الأنين الموجع..
( يبه.. سعد ينتظرني بالجنة.. عسى الله ياخذني له.. اليوم قبل بكره.. )
كان منظر أبي وهو يهتز ويبكي مريعاً..
وأحسست وقتها أن كل ما حولي يقف إجلالاً لقلب هذه المرأة..
كثيراً ما رافقت منيرة في غرفتها..
كثيراً ما رأيت دموعها التي لا تشبهها أي دموع وهي تدعو في جوف الليل..
كثيراً ما استيقظت من نومي لأراها تتحسس صورته وتشهق ببكاء خافت..
بقيت هذه المرأة وفية لسعد.. لاثني عشر عاماً أو تزيد..
وها هي منيرة الآن..
سعيدة مع من حولها.. تحب الأطفال.. وتمارس الطبخ وأعمال المنزل بمهارة منقطعة النظير..
لكن تلك النظرة المهيبة في عينيها وهي تحدق في الماضي المريع لا تكاد تفارقها أي لحظة..
وإذا ما رأيت أختي منيرة يوماً ما..
في مكان ما..
وهي حزينة أو مهمومة.. وربت على كتفها لأقول ما بك يا منيرة.. ؟
تلتفت بهدوء..
تبتسم بصعوبة..
وتهمس كعادتها دوماً..
والله لا شيء يستحق الحزن ولا الهم.. من بعدك يا سعد..
**
من يحب .. يحب إلى الأبد " شكسبير "
المرجع: مجلة حياة العدد 62 / جمادى الآخرة 1426هـ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
منقووووووووووووووووووول