في قرية "ك" النائية عاش حاكم ظالم مستبد بلغ بجبروته و طغيانه مبلغا جعله يستحق لقب النمرود دون منازع, و قد طال مكوثه على زعامة قريته سنين عدة بلغت أزيد من خمسين عاما, إذ تولى الحكم و هو ابن السابعة عشر, بعد أن زكاه مستشاروا القرية و حكماؤها, الذين لا يعرف عنهم أحد شيئا.
فاشتد عوده بين ظهرانيهم و تربى على أيديهم, ليذيق أبناء هذه القرية المبتلى أهلها به, ما لا يطاق من فقر و فساد و ضيم, و شتى أشكال الاستبداد.
في هذه الظروف الحالكة شبّ رجال كرّسوا حياتهم كلها في سبيل استرجاع كرامتهم المسلوبة, و النيل من حاكمهم, حيث الإطاحة به حلم لا يفتأ يراودهم.
كانوا ثلاثة رجال من خيرة من أنجبت القرية, يجتمعون كل يوم تقريبا في منزل أحدهم ليتدارسوا السبل و يحيكوا الخطط في وسيلة لرفع الظلم الذي ترعرع فيه آباؤهم و هم من بعدهم, و لقد شبّهوا أنفسهم بأصحاب الكهف إلا أنه لا كلب لهم.
حدث في إحدى اجتماعاتهم أن قرر أحدهم و اسمه مراد الانسحاب من جماعتهم تلك, فقد رأى أنهم أضاعوا من أوقاتهم الشيء الكثير و أهملوا أهلهم و أعمالهم دون أي نتيجة تذكر, فالغول يزداد تغولا, في حين يزدادون فقرا و مشاكلهم استفحالا, بسبب إهمال أعمالهم و شؤون أسرهم.
بالطبع استهجن رفيقه هشام هذا القرار و رفضه جملة و تفصيلا كونهم قد ارتبطوا بميثاق فيما بينهم و أشهدوا الله أن لن يحول بينهم و بين مطلبهم إلا الموت.
إلا أن مرادا بقوة إقناعه, أصر على أنهم يضيعون أوقاتهم و سيفنون أعمارهم دون جدوى و أن الأمر بحاجة لخطة محكمة و إلا فلا فائدة من التجمع يوميا لسرد القصص و الأحاجي حول جديد الحاكم و زبانيته.
لمس هشام من كلام مراد أن فكرته ليست وليدة اليوم, و لعله بيّت النية بنقض العهد قبل أسابيع و أن لا حيلة لأن يثنيه عن قراره, فصرخ في ذروة سخطه ملتفتا إلى ثالثهم أيمن مستجديا: قل شيئا!!
عدل هذا الأخير من وضعية جلوسه:
- لدي خطة محكمة إن نجحت ستكون فتحا عظيما.
قال أيمن جملته هذه بثقة برزت في عينيه على شكل التماعة شدت انتباه رفيقيه, فأنستهما ما كانا فيه, فقد راودهما شعور أنها خطة العمر.
فنطقا بلهفة, في صوت واحد: ماهي؟
فرد أيمن بحزم: الساخر نجيب!
في قرية "ط" المجاورة سطع نجم الكاتب الأسطوري نجيب, النحرير المتفطن الساخر.
نجيب هذا كاتب مستأجر لا يكتب إلا بأجر مسبق, يلجأ إليه المرء طالبا تصفية غريم له في حسناء أو منصب أو ارث, فيتعقب نجيب الضحية ثلاثة أيام و يعتكف في بيته ثلاث ليال ليكتب عنه أسخر ما قد يكتب المرء, فهو ينحى منحى رسامي الكاريكاتير, فبنظره الثاقب و فطنته يجمع كل الصفات القبيحة في الضحية و يضخمها بشكل يجعل القارئ يلتفت و ينتبه إليها بأسلوب فاضح ساخر, ثم ينشر الموضوع بين أهل القرية فيمرغ وجه الضحية في التراب فلا يجد هذا الأخير مناصا من الرحيل بعيدا عن قريته ملحوقا بالعار و قد لا يرجع أبدا.
نعم يا سادة لهذه الدرجة كانت كتابات نجيب موغلة في السخرية بشكل أسطوري, فالكل يتجنب طريقه, و يحاولون عدم إثارته, فنجيب لم يعهد له أن كتب نصا يمدح فيه كائنا ما كان -حتى نفسه- كل كتاباته ذم لخصوم من يستأجرونه.
و لقد حيكت حول صاحبنا الإشاعات و الخرافات, فبعض العامة يتناقلون خرافة أن الشيطان من يساعده في كتاباته المقيتة تلك, و أنه يعتكف في بيته ثلاث ليال يعربد فيها و يمارس طقوسا شيطانية لاستدعاء قرين ضحيته الذي يلقي على مسامعه جملا في ذمه.
كان من الطبيعي أن يذاع صيته بين أبناء القرى المجاورة, و أن تصلهم أخباره مفبركة ملؤها الإشاعات و الأساطير.
في حجرته المظلمة جلس ضيوفه يبادلونه النظرات, لم تكن نظراته مريحة على أي حال فهو قد اكتسب نظرة خاصة بطبيعة عمله الدنيء.
-لقد جئناك كأي زبون آخر إلا أن ضحيتك هذه المرة من نوع خاص جدا, و نريد منك أن تكتب مقال عمرك, مقالا لم تكتب مثله من قبل.
لقد اعتاد نجيب من عملائه مثل هذه الكلمات, فبدا غير مبال, يستعجلهم في إمداده بالمطلوب.
- انك اعتدت دائما أن تكتب عن أناس من العامة, و مهما بلغت أهميتهم و نفوذهم و سلطتهم يبقون من الشعب, أما هذه المرة فنحن نطلب منك أن تكتب عن زعيم قرية "ك".
لم يستطع نجيب إخفاء دهشته, و تلكؤه فعاجل أيمن بتشجيعه:
- سوف نعطيك ما تريد... كل أموالنا رهن إشارتك, ليس هذا و حسب إن نجحت في مهمتك و أصبته في مقتل, سيصيبك من ثروات قريتنا ما تشتهيه نفسك, كيف لا و أنت منقذها.
أثّرت كلمات أيمن على نجيب و تحركت مطامعه و سرح في خياله الواسع, و تجدر الإشارة أن نجيب هذا لا يبغي من الدنيا إلا مادتها, فلا يبغي سلطة و لا جاها, مَلَكَتُه تشوبها الحماقة, هو أقرب للجنون منه للعبقرية.
-إذن أمهلوني ثلاث ليال أكتب لكم ما تريدون, فأنا مُلِمٌّ بصفات حاكمكم و لا داعي لتعقبه.
-كلا ستأتي معنا لقريتنا يوم خروجه لتفقد الرعية كي تمحِّص النظر فيه, و ستكتب مقالك في ثلاثة أشهر أو حتى ثلاث سنوات, فالأمر ليس هينا و من الصعب أن يتنحى الحاكم عن منصبه بسهولة, الأمر بحاجة لمقال موغل في السخرية, مقال أسطوري لم يكتب ساخر مثله من قبل.
كان الشباب جد متحمسين خصوصا و أن نجيب لم يحدث أن تجاهل أحدٌ ما مقالا يقصده بسخريته, فكل ضحاياه فروا بما تبقى من ماء وجوههم.
و بعد أخذ و رد اتفق الشباب على الخطة التالية: سيكتب نجيب في ستة أشهر مقاله... ينسُجه جملة جملة كما لم يفعل من قبل, و لن يبرح داره طوال هذه المدة و سيتكفلون هم بشؤون بيته خلالها إلى أن يكتمل نسج المقال السحري.
و هكذا كان الاتفاق و طوال ستة أشهر لم يذق أي من أصحابنا طعم النوم, الكل كان يترقب ذلك اليوم, و في مناوباتهم على دار نجيب كانوا يحاولون استدراجه أن يريهم بعضا مما نسج, مرت الستة أشهر بطيئة و في احدى الليالي و هم نيام جاءهم غلام من عند نجيب يزف لهم خبر اكتمال المقال, هرعوا جميعا إلى داره و رُكَبُهم بالكاد تحملهم من شدة القلق و اللهفة.
دفع نجيب الورقة إليهم, فتناولها منه هشام و يداه ترتجفان, ابتلع ريقه و أخذ يقرأ على مسامع صاحبيه.
لم يشعر هشام بنفسه و هو يقرأ, كان كمن يحلم و عندما نطق آخر كلمة من المقال, رفع بصره إلى صديقيه الذين بدا و كأنهما قد استفاقا توا من الإغماء, و كأنه كان يقرأ عليهما تعويذة ما.
لم يستطيعوا كبح جماح دموعهم المنهمرة, شعروا جميعا أنه الفرج, و أن النصر آت لا محال.
كانت خطوتهم القادمة هي قراءة المقال على مسامع سكان القرية جميعا, يوم الاحتفال بعيد مرور نصف قرن على حكم الزعيم لقرية "ك". يومها ستقام عروض بحضور الزعيم و زبانيته و سيحتشد الناس للفرجة, و من بين العروض سيتقدم المتزلفون لمدح الزعيم أمام الحشد و سيكون هشام أحدهم ليطلق رصاص كلماته عليه فيرديه قتيلا.
اتفق الجميع على الخطة, و انتظروا عيدهم بشوق.
و جاء اليوم الموعود, و خرجت القرية عن بكرة أبيها لتشهد أجمل العروض. و نصبت منصة الشعراء و المداحين أمام الزعيم مباشرة و على مرأى من الناس, و ركِّبت الأبواق لتكبير الصوت.
و تقدم الشعراء و المتملقون و المنافقون و تقدم هشام بورق تحمل شعرا وهميا للتمويه اطلعت عليه الرقابة مسبقا, بينما حفظ كلمات مقاله الأسطوري عن ظهر قلب, و جلس ينتظر دوره من بين الحشود الغفيرة من الخطباء, و صوت دقات قلبه في أذنيه, و كذا صديقيه و قد أخذا مكانا قصيا بين الحشود مترقبين لما سيحصل.
أخيرا جاء دور هشام, و اعتلى المنصة مواجها الزعيم المحاط بمستشارين بملابس تشبه الرهبان قد غطت رؤوسهم المنكسة فاحتجبت ملامحهم عن الناس. أما الزعيم فملامحه دون أي تعبير و قد عمد إلى التصفيق و الابتسام لكل من مروا قبل هشام بدبلوماسية.
عم صمت رهيب و مرت ثوان و هشام ينظر إلى خصمه يستجمع قواه, أخذ نفسا عميقا ليصدح بصوته الجوهري كلمات المقال الساخر الأسطوري, و الأبواق تضخم صوته لتنتفض له الأجساد, و المستمعون تسري قشعريرة في أبدانهم من هول ما يسمعون بحق زعيمهم, غير مصدقين هذه الجرأة و الشجاعة.... و الجُمل تخرج من فيه هشام تباعا كرصاص مصبوب..... فجأة! انتهى من إلقاء قنابله تماما كما بدأها.
لم يفهم أحد ما حدث... الناس و كأن على رؤوسهم الطير, مرت دقائق قبل أن يستفيقوا و يستوعبوا ما سمعوه, اشرأبت الأعناق لرؤية هذا الهشام تارة و تعابير وجه الزعيم أخرى, بينما صدْر هشام يعلو و يهبط و كأنه خرج توا من معركة ينتظر نتائجها, كان يركِّز ناظريه على الحاكم بعينين كالصقر لم تطرفا أبدا كي لا يفوت على نفسه أي حركة مهما كانت بسيطة لزعيمه المزعوم كردة فعل سيسجلها التاريخ فيما بعد و يكون هو شاهدا عليها.
طال انتظاره, و الزعيم دون أدنى تغيير يذكر... لم يتململ, لم يندهش, لم تنتفخ أوداجه, لم يحمر خجلا, لم يتصبب العرق منه, بدا مطمئنا تماما, بل كانت المفاجأة التي لن ينساها هشام طوال حياته القصيرة عندما ارتسمت ابتسامة على محيا الزعيم أتبعها بتصفيق حار, ليصفق الناس من بعده كحركة لاإرادية غير مصدقين لما يحدث أمامهم, ليتمزق الصمت الرهيب بهرج و مرج من العامة و هتاف و صياح.
كان شيئا لا يصدق, و سرعان ما سرت الشائعات و تداول بين الناس أن الزعيم هو نفسه الشيطان الذي يملي على نجيب كلماته, و ذهب البعض أن الزعيم وليّ صالح و محصّن ضد كلمات نجيب الشيطانية التي تلاها هشام, بينما رأى بعض المثقفين أن الزعيم أسوأ مما قد يتوقعه إنسان و أن المقال هو نقطة من بحره الأسود لذلك اعتبره مجرد مداعبة طريفة من أحد رعاياه قابلها بابتسامة و تصفيق.
أُلقي القبض على هشام المصعوق, بينما فرّ مراد و أيمن متسللين من بين الحشود الى تل قريب و التساؤلات تعصف بهما, كان كل واحد منهما يستفسر الآخر عما وقع هناك و هو يصرخ في وجهه بهستيرية, لم يستطيعا استعادة ما جرى ثانية في مخيلتهما, جاءتهما الأفكار مشوشة, و المشاهد مختلطة, كانا في أقسى درجات ما يتحمله العقل, حتى مراد كاد يصدق ما قيل عن الزعيم أنه هو نفسه الشيطان الذي يملي على نجيب.
عندما علما أن صديقيهما في الأسر لم يجدا خيارا غير تسليم نفسيهما أيضا كشريكين لهشام في فعلته كما سبق و تعاهدوا.
سِيقوا جميعا إلى سرداب طويل تحت الأرض و كبِّلت أيديهم و أرجلهم و تركوا هناك اليوم كله, و في اليوم الموالي دخل عليهم رجل هرم أحدب يرتدي تلك الملابس الطويلة الخاصة بالمستشارين إلا أنه كان حاسر الرأس, فبدت صلعته بزغب أبيض و عينان جاحظتان في وجه كريه, هو كبير المستشارين, و الجميع يعرفه جيدا, يعود إليه السخط في تزكية الزعيم و هو شاب صغير, و إليه أيضا تعود تربيته و تعليمه.
وقف يجول ببصره في المكان برهة ثم همّ بالانصراف قبل أن يستوقفه أيمن بسؤال خرج من حنجرته كحشرجة: بماذا حصنتموه؟
أطلق كبير المستشارين ضحكة مدوية تردد صداها على طول السرداب, كاشفا عن أسنان عفنة زادت من بشاعته حتى لبدا ماردا للناظرين ثم قال: الزعيم لم يفهم كلمة واحدة مما قرأتم أو قرأه من هم قبلكم.
و أمام دهشة الشبان اقترب المارد منهم أكثر و على عينيه كل شرور الدنيا و أردف قائلا: بالجهل المطبق حصناه.
ثم أطلق ضحكات أخرى يصم صداها الآذان.
لم يسع المعتقلين حينها سوى الضحك مثله عاليا.
ما أصعب أن تحارب السراب!
المقال الرائع لكاتب تحت مُعرف(( الفاني حتماً )) ,,,