حياة متجددة للغات مهمشة
في ديوان"غزيل الريح"
د. شكير فيلالة
ينحت النوع الشعري الزجلي حضوره الفاعل من امكانية اقامته لتماثل بين البنى الاجتماعية والبنى الثقافية بلغته الشفافة القريبة من ثقافة الناس، ولحسن التقاطه لتفاصيل اليومي وتعرجات التفكير الشعبي، وذلك عن طريق مبانيه التي تؤسس لنظام متمايز وغير مفارق"لي ولك" نظام يملك أخيلته وصوره وكتاباته. من ثم حقق قوة تواصل استثنائية في زمن شعراء البروج. ليصيغ خطاباتنا ومضاميننا بلسان حال قاعدة كبيرة من الناس، ظلت مهمشة في دوائر المؤسسات اللغوية الرسمية وغير الرسمية.
وإذا كان النص الزجلي به بعض الإغراق في الفردية، فإن لغته تسمح بأن تحتوي بين أغشيتها مضامين جماعية بإمكانها امتصاص "التصادي" بين البنيتين اللغويتين الثقافيتين (الفصيح/العامي)، مما سيفرز حالة مصالحة بين كلا الطرفين، وبالتالي بين فئات المجتمع التي تتمظهر صراعاتها على المستوى اللغوي.
1) الفواعل التكوينية لنصوص
بمجرد ما نتصفح فهرس "غزيل الريح" نتعرف بيسر ووضوح على موجهات نصوصه وفواعلها التكوينية "روح سناء" و"فلسطين" "رامبو والجيلالي" و" طفل عراقي يستغيث بالعربي" "محنة القدس" و"موسم الحصاد" وغيرها.. فالانطلاق من هذه العنونات باعتبارها مؤشرات تاويل مشروعة ومضمونة لكل من يرغب في تفكيكها يجعل أبواب النص الزجلي عند الشاعر"اجنيح" مشرعة لمن يرغب في الكشف عن خلفياته التي تتراوح بين السياسي والتاريخي والاجتماعي والشعبي، والتي متحها من رصيده الثقافي وممارساته السياسية والايديو- اجتماعية. وهذه الخلفية لم ترتهن في رؤية ضيقة منغلقة على المحلي أو الوطني، بل تعدت ذلك الى القومي، حيث مناجاة الشعوب والحكومات العربية لرفع الحصار عن العراق وكفكفة دمعة الطفل الفلسطيني وحفز القلوب وللهمم لحل محنة القدس. كما أن نصوصه نصصت مجموعة من المكونات التراثية الشعبية والعالمية.
ياتازة ياغذاب سزيف
يا وراق الخريف
يايتيمة فوق رصيف
تازكة ليك بكى
غنىوتكى
بويبلان ينادي ويصنيح
أوكان عزوز
يفسخ لي للقيود ومدلي لالة عدراء
يدها باش النوض
بسالفها نحزم تازة
على اكتافي
نقطع بها جبال وقيافي
نتحدى القمع ولمدافع
ونحطها ف المغرب النافع
(تازة يا حزينة، ص 27)
وأيضا قوله:
هاد الليل مابغى يضبخ
هاد لكنازة غادية تطول هاد لمسيح مابغى يفصح
الغول ولد المغول
مازال، ينطح
الجيلالي، ص 38
فقد امتص هذه المكونات بشكل اسعفه على تمرير منظوراته للأوضاع على المستوى المحلي والقومي بطريقة تصويرية تعكس الواقع بشكل جيد ( مغاول – معزول. مقيد. مناول). وهناك أيضا استثمار بعض أنماط التعبير الشعبي لكي يفجر المهادنة التي تعلنها أحيانا اللغة الاخرى بجماليتها المنمنمة والمجملة، حيث يشير الى مجموعة من الظواهر المتفشية، فنجده يستحضر لغة مروسمة من المنظومة الثقافية الشعبية المغربية، ليعري بها واقعا زيفت حقائقه: كظاهرة الهجرة السرية، وانحراف العلماء، وتراجع دور المثقف.
ولمحظرة هجرت
ف قوارب الموت هربانة
دواية من صنمع جفت
واللواح عطشانة
............
لفقيه دحارف
العام تالف
وشهور حزانة
(غزيل الريح. ص 18)
إن وضوح هذه الفواعل التكوينية وغيرها من خلال أول استقراء لعنونة ديوان "غزيل الريح" أكدته معرفتي بالشاعر قبل الديوان، فقد عرفته شفافا، حارا بلهيب نار رفضه المتأجج ومصداقيته البادية في وضوحه، بذلك تأتي نتائج هذا الحوار مع نصوصه ليؤكد لي سيرته.
واذا كانت خلفيات نصه مغرقة في منظومات ايديولوجية ومقولاتية، فإنها لم تعدم عمقها الجمالي وامتلاكها لصوت رؤيوي خاص شكلا ومضمونا. فتداخلات نصوص "غزيل الريح" مع المعيش والمتخيل ومع الذاكرة والسياسة والاجتماع، لم يتم فيها بالطبع وضع الجمالي على مفصلة الايديولوجي "لا يعني أن الأستاذ اجنيح يضحى بالجمالي لصالح الايديولوجي، بل نجد في تصريحه احتجاجا، وفي اشارته غنى، وفي غمزه سعيا الى أن تكون الفائدة عن طريق المعنى..." (جمال بوطيب: غزيل الريح. مطبعة لفضالة- المحمدية- المغرب، الطبعة الاولى 1999 ص5). ولا أدل على ذلك من تلك الصور الجميلة والأخيلة المبدعة.
النهار من الليل خايف
والسوايع زعفانة
على شط القرن لعشرين
ليام تغزل الريح
والارض من سما حشمانة
الليل يخنق لفجر
والشمش عطات بظهر......‼
تحضر بين تلافيف هذه الصور الشعرية. أبعادا مأساوية، مرة بلغة حميمية وأخرى بلغة ساخرة تشي بنبرة زجل ناضج يزاحم النص الفصيح، ليس مضمونيا فحسب، بل أيضا لغة. وذلك من خلال استعماله للغة مطوعة وسلسة.وهذا ماسنراه في معجم الديوان.
2) الاختبار المعجمي وصياغة لغة وسطى.
نجد معجم "غزيل الريح" متنوعا ومتوزعا على قطاعات ثقافية متعددة جعلته غير منكفء على ذاته وصوته اللغوي. هكذا سنعثر على:
معجم الثقافة الشعبية (الجلابة رجل الفلوس..... العتلوج –سعدي –اخوا –السلهام).
المعجم العسكري(بوشفرة –بساسبو- لمنبهية –الدبابة- لمدافع –النابالم –الألغام –الوش...)
معجم الطبيعة بنوعيها الصامتة والصائتة (النهار –الليل –الشمش –الفجر –الصباح –النسيم الجبال... عصفورة –لحمام –الغراب - الهزار –الديوكة –الفراشات –السمان.).
المعجم السياسي ( الديمقراطية–الحق –القانون –المساواة الانسانية- حقوق الانسان...).
المعجم النضالي (التضحية الشهيد –الابرياء- النصر –الظالم –الجهاد- الاستشهاد).
المعجم الديني (طير الأبابيل –النجاسة – القدس – المسلم – يطهر. الشهدا –اسلامنا – الكافر....) فقد وظف هذا النسيج المعجمي كي يتخذه كمطية ليكشف من خلاله ذواتنا ويكشف وهننا ويصف بمراة اللغة الزجلية الكاشفة. بعمقها وقربها من كل الناس، مايشهده العالم العربي من جور وطغيان، وبذلك ظل مخلصا لخلفياته ورؤاه التي انطلق منها في بناء نصه المقلق/ المطمئن.
كما أن معجمه لم يقتصر على اللغة العامية، بل نجده يسخر ثقافته اللغوية الفصيحة (معسول- تطبيع- الديمقراطية – التضحية –الحق –القانون الانسان –المساواة...) إلا أنه في هذا التوظيف كان مجتهدا،اذأن انشاء تلك الكلمات في سياق الجملة الشعرية ومراعاة بعدها التلفظي نجدها تشي بعودة الى تداول دارجي ومنحها حياة أخرى دون أن تفقد اندلالها على مرجعياتها المعرفية مع الرجوع باللغة الى منطقاتها (الثقافية الجماهيرية )،لكن ليس بشكل مبتذل.من ثم، فإنه صاغها بشكل بلور معه لغة وسطى تحافظ على المعنى وتقيم تعديلا في المبنى. وتتقلص الهوة الفاصلة بين ملفوظاته التي ظلت متضادة الى حدود الآن، في أفق تحقيق وحدة لغوية مغربية /عربية/وهذا ليس بغريب على شاعر تشي نصوصه بالرغبة في وحدة عربية، فكانت اللغة الزجلية (العامية) عزاءه الوحيد.
3) إيقاع "غزيل الريح" إيقاع الذات:
إن الإيقاع في "غزيل الريح" يسهم في إنماء النص موسيقيا ودلاليا عبر بنيته السلسة المنسابة، والتي تنافي والتعقيد المعتم للمعنى، إيقاع بنى نفسه من فطرية الشاعر المتفاعلة مع إيقاع محيطه الطبيعي والثقافي والاجتماعي.ومع إيقاعات الذات، ذات تطمح للصفاء والخلاص من كل أشكال الاستعباد والاستعمار والاستلاب. ويتجلى هذا من خلال نزوح نصوصه إلى تأسيس نص مغاير حيث ايقاعات الذات ودواخلها، تمثل تمفصلات موسيقى النص. بذلك نلمح عنده تشكيل إيقاع يراوح بين التجريب والتثبيت لأشكال إيقاعية في إطار تجريبه لمغايرة إيقاعية. هكذا نسجل بلورة إيقاع بصري عبر توزيع السواد على البياض من قبيل( س..ن...ا...ء) "روح السناء" (ص 13) ونجد أيضا ايقاعا مبنيا على نظام الشطرين (ص37). والشطر الواحد هو الطاغي على نصوص الديوان، وكذلك الحزمات الشعرية مثلا ( في ص 28).
عش نهار
تسمع اخبار
من باب الدار
خطفو لبنيه
كافر نصراني
من الشدود يعاني
دارها ف العربي بلعاني
لبنى كانت ضحية
غتصبها
عذبها
محنها
(عصفورة الجنة ص 28)
فهذا البناء الايقاعي يؤسس لمعمارية النص البصرية من جهة، ولتوتر الذات بين مد وجزر تفاعلاتها مع المحيط بها بكل مستوياته من جهة أخرى. هكذا، فالحديث عن إيقاع «غزيل الريح"، متشعب لكن سنعمل على حصره في إيقاع التكرار، وما اقتصارنا على تناول هذا اللون الايقاعي، الا لكونه يشكل في قصيدة "اجنيح" الزجلية مفصلا فقريا ليس في ايقاعيته فحسب، بل كذلك في أبعاده ودلالته الاصرارية والتقريرية. بذلك نجد مثلا: تكرار حرف الكاف 20 مرة "تازة يا حزينة" فكما نعلم، فإن حرف الكاف صوتيا يتمفصل في الجهاز الصوتي للانسان في مؤخرة اللسان باندفاع الهواء الى الرئتين عبر القصبة الهوائية وصولا للبلعوم فيحصل تقلص العضلات التي تحصر الهواء المندفع فيخرج الصوت متفجرا مجهورا. بذلك فدلالته في القصيدة يأخذها من غضب الشاعر الكامن، غضب على مآل أوضاع مدينة عريقة "تازة." من جراء التهميش والتقسيم المجحف (المغرب النافع/ غير النافع –ص24) فالرغبة الداخلية للذات في اسماع صوت المدينة جعلته يختار لاشعوريا حرف "الكاف بخواصه الانفجارية، فربما تكون رغبة من الشاعر في تفجير وضعها البائس وكسر طوق الحصار عليها فكان حرف" الكاف" بوقا ومدفعا.
في حين نجد في موضع أخرتكرار حروف بخواص مهموسة احتكاكية من قبيل حرف" الحاء" 17 مرة، وحرف "السين" 33 مرة و حرف"الشين" 23 مرة. فإذا عدنا إلى هذه القصائد نجد فيها بوحا بشجن وأسى على أوضاع وممارسات لاطائل منها، ونعثر على حنين حزين، للوقوف على ذاكرة موشومة بجرح أبى أن يندمل. إلا أن همسه هذا ماكان وجوده عند الشاعرالا لكي يخاطب قلوب القراء والشعوب العربية بلغة تستنهض عواطفهم وتدعوهم للمشاركة في الوعي بالذات وبالأوضاع، بذلك يحقق إحدى وظائف الفن وهو تحقيق الوعي باللحظة التاريخية بالانسان والمجتمع.
ونسجل أيضا ايقاع تكرار الكلمة ونقف عليه في " روح سناء « تكررت كلمة "فوقاش فوقاش 11 مرة، وأيضا كلمة "القدس" 22 مرة في قصيدة "محنة القدس". فهذا التكرار حقق لنص "اجنيح" إيقاعا يناظر إيقاع التفعيلة في البحور الشعرية دون أن يسقط نصه في الآلية والتعاقبية، كما أن هذه الكلمات المكررة تشكل في محورا لنصه، منه تتوزع أدوار ووظائف الكلمات إليه تعود، كأن هذه الكلمات مفصل فقري للجملة الزجلية في الديوان. وفي الآن نفسه انعكاس لإصرار الشاعر بأن يكون له مرصد منه ينطلق وإليه يؤول حتى لايتيه في لجى المفارقات والتناقضات التي تحوم في سمائنا كعقاب ينتظر أن تلفظ الضحية أنفاسها ليجهز عليها. وفي إطار إيقاع التكرار، نلمح أيضا حضور تكرار الجملة في "لقلم ولمداد" ص11. وفي "عريس الريف" ص34 حيث نلحظ وقوعه في وسط النص، وهو شكل ألفته ذائقتنا الشعرية في قصيدة الموشح وفن الملحون، حيث يحقق ايقاعا شموليا وكليا للنص. إلا أن حضوره أتى مغايرا لوظائفه هناك. فقد وظفه الشاعر تحت اكراه الضرورة الشعرية وتكسيرالنمطية نصه كي لايسقط في الطولية المتداعية، وقفات لافتة لانتباه القارئ، وشده لترقب التحول المرتقب بعدتكرار الجملة.
إن بنية الإيقاع في "غزيل الريح" والتي أتينا على ذكر بعض ملامحها، بنية تنشغل بنوع من التطابق بين الضرورة الفنية والجمالية للقصيدة الزجلية ن ورؤيوية، "محمد اجنيح".الإنسان والشاعر المرهف الحسي، كل ذلك تم بشكل متناغم بين ايقاعات الذات، وايقاعات المجتمع، فاكتسب الديوان مصداقية تروم خلق ايقاع حياتي بلسان حال ناظمها.
4) إفضاء لابد منه.
إن نص، "محمد اجنيح" الزجلي نص يرغمك على أن تشاطره هواجسه الإبداعية والرؤيوية، فهو صوت زجلي يحول دون انمساخ الكيان الثقافي المغربي بتجنيب نصوصه السقوط في الابتذال الذي وسم منذ زمن ليس ببعيد الممارسة الشعرية الزجلية المغربية من ثم يخيب أفق انتظار قارئة الذي انس لغة زجالية منسقة وخرقاء، مما مكن الشاعر من التموقع في المشهد الزجلي فارضا نفسه ومشاركا دون "وجل" في الممارسة الثقافية المغربية بديانه "غزيل الريح" نظرا لجديته سواء على مستوى نوعية اللغة وطبقاتها أو المضامين او على مستوى تحسسه للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي وتمكنه الجميل من تعرجات المعيش الشعبي بمكوناته اللغوية التي تلامس تفاصيل اليومي المهمش او المحجم.
هامش:
* محمد اجنيح: غزيل الريح، مطبعة الفضالة، المحمدية المغرب، الطبعة الاولى 1999.