قصيدة (( يا نائح الطلح )) من روائع شوقي
حاكى شوقي قصيدة ابن زيدون " أضحى التنائي " أيام كان في المنقى وافتتحها بمناجاة طائر مهيض النجاح, قص ريشه, فقيد في مكانه لا يبرحه ولا يزول عنه.
لكن ما هذا الطائر الذي خصه شوقي بالخطاب والمناجاة فهما يتشاكيان الآلام والأحزان؟( )
إنه الملك الشاعر المعتمد بن عبد الذي سجنه ابن تاشفين أول الأمر في قصر بوادي الطلح بالأندلس, وترك له في بستان القصر جميلة وجارية وخادماً, وكانت تلك أمنية جرت على لسان ابن عباد في بعض أشعاره, فدعى ابن تاشفين أنه بذلك يحقق له أمنيته.
هذا هو الطائر الذي ناجاه شوقي بقصيدته النونية التي عارض بها ابن زيدون, ومطلع قصيدة شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
............................ تشجى لواديك أو نأسى لوادينا
ولقد سيطر الخيال على شوقي فظن أنه يخاطب طائراً حقيقاً فراح في مناجاته له يقول:
ماذا تقص علينا غير أن يداً
.............................. .... قصت جناحك جالت في حواشينا
رمي بنا البين أيكاً غير سامرنا
.............................. ...أخا العريب وظلا غير نادينا
أترككم مع القصيدة الرائعة لأمير الشعراء أحمد شوقي
*************
يا نائــح الطلـحِ أشـــباهٌ عــواديــنا = نشْجى لـواديــــك أم نأســى لــواديـنا
مـاذا تـقـصُّ عـلـيــنـا غيرَ أنّ يــداً = قصـَّـتَ جــنــاحك جالت في حــواشينا
رمى بـنـا البـيـن أيـكاً غير سامِرنا = أخا الغــــريـــب وظـــــلاًّ غيرَ نادينا
كلٌّ رمـتــهُ الـنَّـوى ريشَ الفِراقُ لنا = سهماً وســــلّ عـليــك البـيـنُ سكــينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنــصـــدع = من الجــنــاحــيـــن عـيٍّ لا يُـلبـّـيـــنا
فإنَ يَكُ الجنسُ يا ابن الطَّلْحِ فــرّفنا = إن المصائب يـجــمــعــنَ الـمُصـابـيـنا
لم تــألُ مــــاءك تــحـناناً ولا ظمأً = ولا ادِّكاراً ولا شـــجــــواً أفـــانـيـــنا
تـجـُـــرُّ مـن فـــنـــن سـاقاً إلى فَنَنٍ = وتسحبُ الذيلَ ترتادُ الـمـــؤاسـيـــنا
أساةُ جسمِكَ شتَّى حــيـــن تطلـبـهم = فمَنْ لــروحـــك بالنّـُـطْـس الـمُداوينا
آهاً لنا نــازحـــيْ أيـــكٍ بـأنــدلسٍ = وإن حَلَلْنَا رفـيـقــاً مـــن رَوابــيــنـا
رســمٌ وقـفـنا على رســمِ الـوفـاء له = نَجـيـش بالـدَّمـع والإجـــلال يثنينا
لفــتــيـَـةٍ لا تنال الأرضُ أدمُـعـَـهم = ولا مَــفــــارقــــهـم إلاَّ مُـصـَـلـّـيـِنا
لو لم يسودوا بـديــــن فــيه منبهةٌ = للناس كانت لهم أخـــلاقُــهم ديــنا
لم نَسْرِ من حـــــرمٍ إلاّ إلى حــَـــرَم = كالخـمــر من بابلٍ ســــارت لدارينا
لـمّا نـبـا الخلـدُ نـابت عنه نُسْختُه = تماثلَ الــــورْدِ خـيـريّـاً ونـسـريـنا
نـسْـقــي ثـراهـمْ ثـناءً كـلَّـما نثرتْ = دُمــوعُـنا نُـظِـمــتْ مـنــها مراثيـنا
كادت عـــــــيون قــوافينا تحـرّكـهُ = وكِدْنَ يوقظنَ في التُّـــربِ السلاطـيـنا
لكنَّ مصــرَ وإن أغضــــتْ على مقــةٍ = عينٌ مـن الخــــلدِ بالكافــور تسقيـنا
على جــوانبها رَفَّتْ تـمــائــمــــنا = وحــولَ حـــافــاتها قامــتْ رواقينا
ملاعــــبٌ مَــرحَــــتْ فيها مآربُـنا = وأربـــع أَنِسَـتْ فــــيـها أمـــانينــا
ومطلعٌ لسـعـــــــودٍ مـــن أواخِـرنـا = ومغـــــربٌ لجُـــدُودٍ مـن أوالــيـــنا
بنَّا فلـم نَخــلُ مـــن روح يراوحـنا = من بَرّ مصـــرَ وريــحــانٍ يُغــاديـنا
كأمِّ مـــوســـى علـى اسمِ الله تكْفُلُـنا = وباســمهِ ذهــبـتْ في الـيَـــمِّ تُلقِيــنا
ومصرُ كالكـرمِ ذي الإحـسان فاكهةٌ = لحـــاضِـــرينَ وأكـــــــوابٌ لـبـَادينا
يا ساري البرقِ يرمــي عن جوانحنا = بعدَ الهدوءِ ويهـمــي عـــــن مآقينا
لمّا ترقرق في دمــــع السمــــاءِ دمــاً = هاج البكا فـخـضـبْناَ الأرضَ باكــينا
الليلُ يشهد لم نـهــتـِـك دياجِــيـَهُ = على نيــامٍ ولم نـهــتــف بسالـيــنا
والنَّجـمُ لم يــــرَنا إلاّ على قـــــدمٍ = قيامَ لـيـل الهــــوى للعـهج راعـيـنا
كـــزفــــرةٍ في ســماءِ الليل حائــرةٍ = ممَّا نُرَدِّدُ فــيـه حــيـــن يُـــضـوينا
بالله إن جبت ظلماءَ العــــــبابِ على = نجائب النُّور مَحــــــــدوّاً بـجرينا
تـــردُّ عــنــك يـــــــداه كلَّ عـاديةِ = إنساً يعـثــنَ فـســـاداً أو شـــياطينا
حتى حَــــوتكَ ســمــاءُ النيلِ عالية = على الغــيــــوث وإن كانت ميامينا
وأحــــرزتكَ شُـفـوفُ اللازوَرْدِ على = وشيِ الزَّبـــــرْجَدِ مـن أَفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجــــــــاءً مؤرَّجَةً = رَبَتْ خــمائِلَ واهتزَّت بــســـاتينا
فقِف إلى النيل واهتــــف في خمائله = وانزل كــمـا نزل الطلُّ الرَّياحـــينا
وآسِ ما بَاتَ يــــــذوِي من منازلنـا = بالحـــــادثات ويضوي من مغانيـنا
ويا معطِّرةَ الوادي سرَتْ سَحَــــــراً = فطابَ كلُّ طــــروحٍ من مـــــــرامينا
ذكـيَّـة اللَّيل لـــــو خِلـنا غــلالتها = قميصَ يوسفَ لم نحســــبْ مُغالينا
جشمتِ شوْكَ السُّرى حتى أتيتِ لنا = بالـــورد كتباً وبالـــــرَيَّا عـنـاوينا
فلو جـــــــزيناك بـــالأرواح غاليةٌ = عن طيب مسراك لم تنهض جوازينا
هل من ذيــــولكِ مسْــكِـــيٌّ نحَمِّلُه = غــرائب الشــــوق وَشياً من أمالينا
إلى الذين وجـــــدنا وُدَّ غـــيــــرهمُ = دُنيا وودّهم الصــــافـــي هو الدنيا
يا من نغارُ عليهم من ضمــــائـــرنا = ومن مَصـــون هــواهــم في نتاجينا
خاب الحنينُ إليكم في خواطــــــرِنا = عن الــدّلال عـلـيــــكم فـي أمانينا
جئنا إلى الصبر نـدعــوه كعــــادتنا = في النائبات فلم يــأخــــذ بـأيدينا
وما غلبنا على دمــــــع ولا جــلـــدٍ = حتى أتتنا نواكم من صــيـــاصـينا
ونابغيّ كأن الحــشــــــــر آخــــره = تُمــيـتــنا فيه ذكــراكم وتُحـيينا
نَطوي دجـــاه بجــرحٍ من فراقـكــم = يكاد في غلَس الأسـحـار يـطــويـنا
إذا رَسا النجمُ لم تـرقأ مَــحاجِــرنا = حتى يـــزول ولم تـهــدأْ تراقينا
يبدو النهارُ فيخفيه تـــجـــلـُّــدُنا = للشــامـتــــيـن ويأْسُـــــوه تأيِّينا
سقياً لعهدٍ كأكناف الرُّبــــى رفـــةً = أَنَّى ذهــبــنا وأعطاف الصَّبا لـينا
إذِ الزمــــانُ بنا غيـــناءُ زاهــيـــةٌ = ترفُّ أوقـــاتُنا فيـها رَيَـــاحيـنا
الوصـــلُ صــافيـــةٌ والعـيشُ ناغيةٌ = والسعدُ حاشيةٌ والدهــــرُ ماشينا
والشمس تختال في العقيان تحسبـها = بلقيس ترفُلُ في وشيِ اليـــمَانينا
والنيلُ يٌقـبِـل كالدنــيا إذا احتـفلت = لو كان فيها وفــــاءٌ للمُصافـيــنا
والسعدِ لوْ دام والنعمَــى لو اطَّـردتْ = والسيلِ لَو عَـفَّ والمــقدار لو دينا
ألقى على الأرض حتــى رَدَّها ذهـبا = ماءً لمسنا به الإكــســيــر أو طينا
أعداه من يُمنِه التابـوتُ وارتسَمَــتْ = على جـــــوانبه الأنوارُ من سينا
له مبالغُ ما فــــي الخُــلْقِ من كــرَمٍ = عـهـــــدُ الكرامِ وميثاقُ الوفيِّينا
لم يجــــرِ للدهـرِ إعــذارٌ ولا عُرُسٌ = إلاَّ بــأيـامــنا أو فــي ليــــالينا
ولا حـــــوى السعـدُ أطغى في أعنَّته = كنَّا جياداً ولا أرحــى ميـــادينا
نحن اليواقيتُ خاض النارَ جَوهَرُنا = ولم يهُنْ بيدِ التـشـتـيـتِ غالينا
ولا يحــــول لنا صـــبغٍ ولا خُـلُــقٌ = إذا تلّون كالحــــــــرباء شانينا
لم تنزل الشمسُ ميزاناً ولا صعدَتْ = في مُلكها الضخمِ عرشاَ مثلَ وادينا
ألم تُـــــؤلَّه على حــافــاتـه ورأتْ = عليه أبنــاءها الغـرَّ المـيـامـيــنا
إن غازلت شاطئيه في الضحـى لبسا = خمائل السُّـنــدُس الموشيَّةِ الغينا
وبات كلُّ مجـــاج الوادِ من شـجـرٍ = لوافــظِ القـــزِّ بالخيــطان ترمينا
وهذه الأرضُ من سهلٍ ومـــن جبلِ = قبل القياصر دِنَّـاهـا فــــراعيـنا
ولم يضع حــجـــراً بانٍ على حجرٍ = في الأرض إلاَّ على آثــــار بانينا
كأنّ أهــــــرام مصرِ حائطٌ نهضت = به يدُ الـدهــرِ لا بـنيانُ فانيـنا
إيوانُه الفـخــمُ من عُـلـيا مقاصـره = يُفني الملوك ولا يُـبـقـي الأواوينا
كأنها ورمــالا حــــولها التطمتْ = سفـــيـــنــةٌ غـرقتْ إلاَّ أساطينا
كأنها تـحـت لألاء الضُّـحى ذهباً = كــنـــوزُ فِــرعون غطَّين الموازينا
أرضُ الأبـــــوةِ والمـيـــلاد طيَّبها = مـــرُّ الصِّبا في ذيـول من تصابينا
كانت مُـحـجـَّـلـةً فـيـها مـواقِفُنا = غُـرَّاً مُسَلْسَلَةَ الـمــجـرى قوافينا
فــــآب مِــــنْ كُــرةِ الأيامِ لاعِبنا = وثــاب مِنْ سِــنـةِ الأحلامِ لاهينا
ولم نــــدع لليالي صــافياً فدعتْ = (بأن نغــــصَّ فـقـال الدهـرُ آمينا)
لو استطعنا لخُضْنَا الجـوِّ صاعقةً = والبرَّ نـــارَ وَغىً والبحــرَ غسلينا
سعياً إلى مصرَ نقضي حقَّ ذاكرنا = فيها إذا نَسيَ الوافـــــــي وباكين
ا
كـنـــزٌ بحُــلـوان عندَ اللهِ نطلُبُه = خيـــــرَ الودائع من خـير المؤدِّينا
لو غـاب كـلُّ عزيز عـنه غَيبتَنَا = لم يأتِه الشــــوقُ إلاَّ من نـواحينا
إذا حمَلْنا لمصـر أو لــهُ شَجَـــناً = لم ندرِ أيُّ هـــوى الأمين شـاجينا
__________________
.